Top Banner
57

ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

Feb 01, 2023

Download

Documents

Amber Haque
Welcome message from author
This document is posted to help you gain knowledge. Please leave a comment to let me know what you think about it! Share it to your friends and learn new things together.
Transcript
Page 1: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

1

Page 2: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

23

وهوهذاكروهجرةررة

Page 3: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

45

6 سعيد أبو شقرة تقيص أثر الذاكرة

12 إسماعيل ناشف ذاكرة (و) هجرة هجرة (يف) ذاكرة

78 أاسمة سعيد

84 زهدي قادري

90 حممد فضل

94 أنيسة أشقر

100 مهند يعقويب

106 إسماعيل حبري

المحتويات

صالة العرض للفنون أم الفحم

سعيد أبو شقرة/ مدير

ذاكرة وهجرة

28 نياسن - 30 أيلول 2012،

قيم المعرض: اسماعيل ناشف.

كتالوج

حمرر: اسماعيل ناشف.

التصميم الغرايف: وائل واكيم.

تصوير: ياكيس كيدرون.

ترمجة التقديم للعربية: جالل حسن.

تدقيق لغوي، اللغة العربية: حنا حاج.

تدقيق لغوي، اللغة العربية: يوآف مرياف.

2012 ©

حقوق النرش للكتالوج حمفوظة لصالة العرض للفنون-أم الفحم.

حقــــــــــوق النرش للمقال «ذاكرة يف هجرة/ هجرة يف ذاكرة» حمفوظة

إلسماعيل ناشف وصالة العرض للفنون أم الفحم، مجعية الصبار.

ــون أم الفحم صالة العــرض للفنפחם אל- אום ות לאמנ ה הגלריUmm el-Fahem Ar t Gallery

جمعية الصبار עמותת אלסבאר

Page 4: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

67

سعيد أبو شقرة

مفتــــــــــاح ضخــــــــــم وطويل يعلوه الصدأ. بوابة خشــــــــــبية متداعيــــــــــة وآيلة إىل

السقوط تفتح إىل الداخل يف اجتاه البيت العتيق.

ثــــــــــالث درجات يف وســــــــــط الغرفة تفيض إىل فناء رحب ذي ســــــــــقف عال

صنع من جذوع (شــــــــــجر) مرتاصة. قبالة بوابة المدخل، أسند إىل احلائط

المركــــــــــزي رسير جديت «بلقيــــــــــس» احلديدي. هــــــــــي أم أيب، امرأة كفيفة

ومعاقــــــــــة. يف اجلهــــــــــة اليمىن طاولــــــــــة بالغة القدم وقد وضــــــــــع علهيا مذياع

ضخم.

هذا مــــــــــا كان عليه البيت الذي كان عليه أن يؤوي عائلة تعداد أفرادها

ســــــــــبعة، وأن يليب احتياجاهتا ويســــــــــتقبل الضيوف الذيــــــــــن تدفقوا بدون

يارة اجلدة «بلقيس»، ولم يفارقوها للحظة واحدة. انقطاع لز

اجلدة بلقيس هي ابنة لعائلة زيد الكيالين وأصلها من قرية المنيس (عني

المنيس) اليت أقيم عىل أطاللها كيبوتاس «هيوغيف» و «مدراخ عوز».

بعد هتجريهم من القرية وصل بعض الســــــــــكان إىل أم الفحم وبقوا فهيا،

وتفرق البعــــــــــض اآلخر يف أصقاع األرض. عمل الناس يف قرية المنيس يف

فالحة األرض وزراعة الزيتون والقمح والشعري، ويف تلك األرايض جتولت

اجلدة «بلقيس» حرة طليقة مع صديقاهتا بنات جيلها. قطفن النباتات

واألزهار ليصنعن مهنا أكاليل وتيجانا يتوجن هبا رؤوهسن.

حتكي جديت عن قرية «المنيس»: «كنا نعمل يف احلقول عندما ســــــــــمعنا

إطــــــــــالق نار ودوي انفجارات، رأينا الكثري مــــــــــن الفالحني هيرولون يف مجيع

االجتاهات، وأمهــــــــــات حيملن األغراض عىل رؤوهسن وميســــــــــكن األطفال

بأيادهين، ورأينا محريا وجيادا وعربات مملوءة واجلميع هيرولون بذعر وهلع

بالغــــــــــني. «الناس تقتل والقرى تدمر» -هكذا ردد اجلميع وأاشروا علينا

باالبتعاد.

النــــــــــاسء يف البيوت كن يلففن أرغفة اخلزب واألطعمــــــــــة ببطانيات ويبقيهنا

يف قــــــــــاع البيت كي تبقى طازجــــــــــة عند عودهتن بعد مدة وجزية. «أدخلنا

الدجاجات إىل أقفاصها وأقفلنا البيوت وجئنا إىل أم الفحم. بعد بضعة

يا أيام، أدركنا أن كل يشء انهتى. بعض أقربائنا رحلوا إىل األردن وســــــــــور

ولبنان، وأصبحت القرى أثــــــــــرا بعد عني. الناس اجلياع عادوا حتت جنح

الظالم إىل بيوهتم للبحث عن الطعام واخلزب الذي أبقيناه من ورائنا. جنح

البعــــــــــض، وألقي القبض عىل البعــــــــــض وأردوا قتىل». هاكم حكاية أمينة

مرار كما روهتا اجلدة بلقيس.

"أمينــــــــــة مرار"، كما كانــــــــــوا ينادوهنا، ولدت وعائلهتا يف قرية أم الشــــــــــوف

(غفعات نييل يف أيامنا) اليت تقع عىل مقربة من القرى الفلسطينية عني

التوت، وصبارين، وخبزية، وقنري.

تزوجت «أمينة» من رجل من قريهتا، وأسست عائلهتا وكانت سعيدة

ا بوالدة ابهنا البكر. جد

مجيع ســــــــــكان القرى المجــــــــــاورة تقاطروا للماشركة يف حفــــــــــل الزفاف. يف

ــــــــــاء العريس والعروس أشــــــــــعلت الشــــــــــعل والمواقد وأضاءت ليلــــــــــة حن

ــــــــــار وحداء المغين مئــــــــــات المحتفلني ســــــــــماء احلفل، وألهبت أحلان الزم

الذين صفقــــــــــوا بإيقاع ومألت أصواهتم العالية المكان واخرتق صياحهم

أثر الذاكرة

Page 5: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

89

ومرحهم الصاخب األزقة واألمــــــــــواج والتالل واألحراش، فتقاطر المزيد

من الناس من قرى اجلوار.

إىل داخل حلقة المحتفلني الواســــــــــعة دخل المختار ممتطيا فرسه األصيلة

اليت بدأت تتخايل وترتاقص أمام الناس.

يف المقابــــــــــل احتفلت «أمينــــــــــة» بليلة حناهئا. وهناك كذلك أشــــــــــعلت

الماشعل وعمت الهبجة. تصل ناسء أهل العريس بـ «فاردة» (موكب)

ضخمــــــــــة، ويلتحقن يف غناهئــــــــــن بناسء أهل العروس. الشــــــــــيخة "لطيفة"

تقود ناسء أهل العريس بالغناء واإليقاع، وكأن منافسة حامية الوطيس

تدور بني الطرفني: لمن الغلبة يف الصوت واإليقاع؛ لناسء أهل العروس

أم لناسء أهل العريس؟

تزتوج "أمينة"، وبعدها بأســــــــــبوع حيرض مجيع أفراد عائلهتا يف طابور طويل

لهتنئهتا، وإلخبارها بأننا سرنافقك عىل الدوام. حنن عشريتك، وإخوتك

وأخواتك وأبناء عمومتك. حنن سندك وظهرك.

ترسبت األخبار إىل هذه القرية كذلك عن أن الناس يذحبون وأن القرى

ــــــــــر. اسعــــــــــات الليل، أصوات إطالق نــــــــــار ودوي انفجار يف كل مكان. تدم

وذعر وعويل، وظلمة حالكة. كل يبحث عن أعزائه دون جدوى. وهكذا

يفر الناس ويرصخون وهيربون.

تقرتب «أمينة» من رسيــــــــــر رضيعها ابن بضعة األهشر. تلفه بالبطانيات،

وســــــــــيكون هو اليشء الوحيد الذي تتناوله معها عند فرارها من البيت.

هترب حبثا عن مالذ آمن يف مكان قريب.

تصــــــــــل «أمينة» لوحدها إىل قرية عرعرة، وحتصل عىل ملجأ لليلة واحدة

يف مزنل إحدى عائالت القرية.

جتلــــــــــس إلرضاع وليدها وعندها يتبني لها هــــــــــول الكارثة. يف حالة الذعر

اليت انتابهتا، تناولت الواسدة من مهد ابهنا وضمهتا إىل صدرها وشدت

ــــــــــا مهنا أهنا تضم ابهنا. بعد بضع اسعــــــــــات، تبني لها أهنا أبقت علهيــــــــــا ظن

ابهنــــــــــا لوحده يف الرسير داخــــــــــل المزنل. دب رصاخهــــــــــا وعويلها الذعر يف

نفوس بعض ســــــــــكان القرية الذين خرجــــــــــوا للبحث عن الطفل وإنقاذه،

لكــــــــــن آثارهم اختفت. تبــــــــــني الحقا أهنم جنحوا يف إنقــــــــــاذ الطفل لكهنم لم

يعودوا أدراجهم إىل القرية، بل وصلوا إىل غزة مع آالف الالجئني.

«يا أم البارودة»... «يا أم البارودة». هكذا صاح أوالد قرية عرعرة وهم

يالحقون «أمينة» اليت فقد عقلها منذ تلك احلادثة، وحتولت إىل امرأة

غريبة األطوار وال تدري ما يدور حولها.

تلك هي بعض احلكايات اليت رويت حول رسير اجلدة «بلقيس». بعض

أقربــــــــــاء عائلهتا الذين حيملــــــــــون ذاكرة حية عن احليــــــــــاة يف قراهم المدمرة

جلسوا يسرتجعون الذكريات يف بيتنا القديم.

يف هذا البيت جلست أمي ولم تنبس ببنت شفة. تزوجت هذه المرأة

ــــــــــرة، واعتادت التحدث عــــــــــن أمها وأبهيا ــــــــــة والنحيفة يف ســــــــــن مبك الاشب

واألحداث اليت جرت يف تلك األزمنة.

"كنت طفلة ولم أبلغ بعد االثين عرش ربيعا. توفيت أمي أمامي عندما

كنت يف ســــــــــن اخلامسة. أذكر كيف جلســــــــــت النسوة حولها لماسعدهتا

عندما جاءها الطلق، واستلقت لوالدة أخيت فاطمة.

«سمعت المولدة خدجية ترصخ بصوت عال: احلمد لله، بنت مجيلة. يا

إلهي، ما أمجل هذه الطفلة!».

ــــــــــي فرشعت الناسء ال أدري مــــــــــا الــــــــــذي حدث بالضبــــــــــط. أغمي عىل أم

بالرصاخ. جاءت جديت زينب وضمتين إىل صدرها فأجهشــــــــــت بالبكاء.

قالت يل إن أمي قد صعدت إىل اجلنة. بعدها كنت يف اجلنازة مع أيب. لم

أفهم لماذا دفنوها إذا كانت ستميض إىل اجلنة. ثار غضيب عىل والدي،

واعتقدت أنه قتلها بدل أن يرسلها إىل اجلنة.

«ال، يا ابنيت الغالية مريم. لم أقتل أمك حليمة. لقد ذهبت بالفعل إىل

ا جديدة». أتذكر أقواله هذه. اجلنة. أسشرتي لك أم

والدي الشيخ يوسف كان إمام المسجد. هناك علمين القراءة والكتابة.

قست زوجة أيب عيل ولم تسمح يل مبواصلة الدراسة.

Page 6: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

1011

من سياسعدين يف أعمال المزنل؟ هكذا اشتكت لوالدي.

ا، أكرب مهنا ا أحببته، لكنه لم يتمكن من مواجههتا. كان رجال مسن ا مج حب

بكثري. زوجين عندما كنت طفلة كي يبعدين عهنا.

هكذا كانت أمي حتدثين كلما سنحت لها الفرصة.

يف هــــــــــذا البيت، عىل هــــــــــذه الطاولة يف زاوية البيــــــــــت، وضع مذياع كبري.

يا من ومن هذا المذياع انطلقت أصوات الالجئني الفلسطينيني يف سور

«صوت فلسطني من دمشق»، مرتني يف األسبوع.

أمي تناديين وتطلب إيل: «تعال إىل هنا. اسمع جيدا. رقد يرسل جدك

الشــــــــــيخ يوسف لنا سالمه. نادين عىل الفور إذا سمعت صوته». جدك

وزوجته الثانية والكثري من النــــــــــاس هجروا وهربوا. هاموا عىل وجوههم.

يا. يقول البعض إنه يف سور

طــــــــــوال أيام عديدة لم أفارق المذياع الكبري. متنيت ســــــــــماعه. لم أســــــــــمع

صوته قط. لم أســــــــــمع قط أي شــــــــــخص ينقل سالما باسمه. الحقا عرفنا

يا. أنه تويف ودفن يف خميم الريموك لالجئني يف سور

ا. أحببت حكاياهتا كلها، ال سيما حكاياهتا ا مج يف طفوليت أحببت أمي حب

عن أبهيا.

ــــــــــا. صنع حصائر من القش وباعها للعرائس والناس. كان «لقد كان فنان

نت ذقنه حلية بيضــــــــــاء. كان هادئا وحمبوبا من ي يعتمــــــــــر طربواش أبيض وز

اجلميع. عندما حتدث أصغى إليه الناس، وذلك أنه كان يعرف الكثري يف

أمور الدين، وكان ذا طبع فكه».

حزنت أمي كثريا لفراقه. «بعد أن تزوجنا يف ســــــــــن مبكرة للغاية، بقيت

ــــــــــي اليت توفيت، وبدون أيب الذي غــــــــــادر مع من غادر. وحــــــــــدي بدون أم

رحل إىل مكان لم يدعه أحد إليه».

تعرتيــــــــــين رغبة غامرة بتقيص آثار اجلــــــــــد من حلظة مغادرته حىت وصوله إىل

يا. خميم الريموك يف سور

له وهو عىل ظهر محاره يصــــــــــل إىل مفرتق طرق. أختيله يف حرية أحــــــــــاول ختي

شديدة: هل مييض قدما أم يعود إىل بيته، إىل مريم وابنه حممد وأحفاده

وأقربائه. ال أدري ما الذي حصل يف تلك اللحظة.

مىض جدي الشيخ يوسف مع سيل الالجئني المتدفق حنو الرشق.

Page 7: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

1213

هجرةةاكر1313كرة ذاكففي

ة اككك

ههررةهجرةررذ

إسماعيل ناشف

يقــــــــــوم معرض ذاكرة وهجرة عىل الفكرة األاسســــــــــية أن تقنيات التدوين

الرسدية والبرصية للمأاسة الفلســــــــــطينية ليست ثابتة بل متحولة. ومن

ــــــــــم فإن المعرض مبين عــــــــــىل فكرة رصد التحــــــــــوالت يف تقنيات التدوين ث

ــــــــــة المنبثقة عهنا كمداخلة وواسئطــــــــــه بغية فحص احلمولة الفنـية اجلمالي

يف إعادة تشــــــــــكيل الفهم الاسئد للمأاسة الفلسطينية. فإن كانت هذه

ــــــــــات نابعة من طور حمــــــــــدد من تقنيات التدويــــــــــن العامة يف النظام التقني

الرأســــــــــمايل الاسئــــــــــد، والذي يتجســــــــــد يف فلســــــــــطني بشــــــــــكله الصهيوين

االســــــــــتعماري، فإن التحــــــــــول يف هذه التقنيات ينعكــــــــــس يف إدراكنا ومن

ــــــــــم يف فهمنــــــــــا للمأاسة الفلســــــــــطينية بذاهتا.1 يف المقابــــــــــل، إن المأاسة ث

الفلســــــــــطينية حتمل كمونا حلظة رسدها كما حلظة برصيهتا، أي إن هنالك

ــــــــــات التدوين والنظام االجتماعي االقتصــــــــــادي الاسئد، ومن ثم للتوســــــــــع يف العالقة بني تقني 1انعكاس ذلك عىل ادراك األفراد لتارخيهم، انظر:

McLuhan, M., 1962. The Gutenburg Galaxy: The making of the typographic man. Toronto: University of Toronto Press.

Ong, W. G., 1982. Orality and Literacy: The technologizing of the word. London: Routledge.

Anderson, B., 2006. Imagined Communi es: Reflec ons on the origins and spread of na onalism. London: Verso.

Smith, M., 2007. Sensory History. Oxford: Berg.

هجرةذاكر ذاكرةفي

ةهجرة

Page 8: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

1415

ا يف المأاسة، نابعا مــــــــــن تارخييهتا بالرضورة، لم يتبدل عقب ــــــــــا بنيوي ب مرك

التحوالت يف مســــــــــتوى تقنيات التدوين، بل حدد بطريقة جزئية شــــــــــكل

االنشــــــــــباك بني التدوين وتقنياته وطرق التعبري عنه.2 من الممكن القول

إن هذا المركب هو اللحظة التعبريية يف عالقة المســــــــــتعمر /المستعمر

يف الســــــــــياق االســــــــــتعماري القائم يف فلســــــــــطني. والســــــــــؤال الذي يسعى

المعرض لفحصه هو التحويــــــــــرات المختلفة عىل هذا المركب كما عىل

أشــــــــــكال التقائه مع تقنيات تدوين خمتلفة. هبــــــــــذا، إن ذاكرة وهجرة هي

كل حدث ذاكرة وهتجري وهجرة مدونة يف بنية المأاسة الفلسطينية، كما

كل تقنية تدوين انبنت من خالل اســــــــــتخدامها لتشــــــــــكيل البىن الرسدية

والبرصية للمأاسة كما لفهمها المتحول عرب أزمنة وأمكنة خمتلفة.3

إن الفضــــــــــاء القائم بني حــــــــــدث ما (ذاكرة أو هتجري أو هجــــــــــرة أو غريهما)

ــــــــــات تدوينه ميكن أن يولد العديد من عمليات التشــــــــــكيل اليت قد وتقني

تأخذ قطــــــــــيب العملية إىل آفاق غري متوقعة مســــــــــبقا من قبل المبدع و/

أو الماشهــــــــــد المتلقي. ويف األعمال المعروضــــــــــة هنا حماولة لفتح قطيب

ــــــــــة المختلفة، ومن هنا نتــــــــــج تنويع يف ــــــــــة عىل إمكانياهتمــــــــــا الفعلي العملي

ل لهذه األعمــــــــــال. فمن جانب، هنالك حدث الذاكرة الممكن والمتخي

والهتجري والهجرة المؤسســــــــــة يف المجتمع الفلسطيين، نكبة عام 1948،

والرجوع التكراري إليه إما عىل شــــــــــكل ترجيع موســــــــــيقي وإما بالعودة إىل

مل األحداث اللحظــــــــــة األوىل لفكهــــــــــا؛ أما من اجلانب اآلخر، فهنالــــــــــك جم

الــــــــــيت تلت وال بد من إدراجهــــــــــا كذاكرة وكهتجري وكهجرة ضمن الذاكرة /

الهجرة األم-النكبة. فهنالك أربعة فنانني فلسطينيني وفنانة فلسطينية:

أاسمة ســــــــــعيد؛ زهدي قادري؛ مهند يعقــــــــــويب؛ حممد فضل. أما الفنانة

2 إن المقولة أن كل حلظة اجتماعية تارخيية حتمل برصيهتا هي أمر إشــــــــــكايل، لكهنا رضورة بنيوية لكي نفهم هرمية احلواس يف سياق اجتماعي ما. للتوسع، انظر:

Mitchell, W.J. T., 1987. Iconology: Image, text, ideology. Chicago: Chicago Uni-versity Press.

، انظر: 3 حول أهمـية األداة بالعمل الفينFischer, E., 2010. The Necessity of Art. London: Verso.

فهي أنيســــــــــة أشــــــــــقر. هنالك فنان عــــــــــريب من أصول تونســــــــــية يعيش يف

المهجر، فرناس، هو إســــــــــماعيل حبري. وهنالك فنان أمريكي من أصول

هندية كينية أمريكية هو فازال شــــــــــيخ. ثالثــــــــــة من هؤالء الفنانني، أاسمة

وزهــــــــــدي وحممد، يعرضــــــــــون لوحاهتم التشــــــــــكيلية، اللوحة مبــــــــــا هي نوع

كالســــــــــيكي من تقنيات التدوين البرصي /الرسدي. ثالثة آخرون، مهند

وأنيســــــــــة وإســــــــــماعيل، يســــــــــتخدمون الفيديو آرت كتقنية تدوين وتعبري

ــــــــــة معارصة. أما الفنان الاسبع، فازال شــــــــــيخ، فيســــــــــتخدم التصوير برصي

ــــــــــة تدوين وتعبري برصية هي أيضــــــــــا تعترب حالة مقلقة، الفوتوغرايف كتقني

عىل األقل، للوحة التشــــــــــكيلية التقليدية. من الصعب عدم رؤية التنويع

يف المداخــــــــــالت اجلمالية اليت متزي كل فنان عىل حدة وذلك بســــــــــبب من

كادميية، أو غياهبــــــــــا، المختلفة لكل مهنم، كما تعدد أشــــــــــكال البيئــــــــــة األ

التحويــــــــــر احلضاري العــــــــــام، ويف أنواع الفضاء المختلفــــــــــة اليت ترعرعوا هبا

وصاغــــــــــوا عربها ذائقهتم احلســــــــــية. إال أن تقاطع الذاكرة والهتجري والهجرة

مع تقنيات التدوين، كتيمة رئيسية يف هذه األعمال، هو ما ينسج خيوط

را بني احلدث الفلســــــــــطيين المعرض المتنافرة ليخلق نســــــــــيجا يتماوج توت

وذلك العام، من جهة، وتقنيات تدوينه والتعبري عنه، من جهة أخرى.

هــــــــــذا المقال هو رقعــــــــــة متنقلة ختيط خيوطا مرئية، وأخرى شــــــــــفافة غري

مرئية ولكهنا ملموســــــــــة، بني قطع القماش والــــــــــاشاشت المتعددة عىل

ــــــــــيت هذا الكاتالوج. هذه الرقعة هي تقنية تدوين حيطان المعرض، ودف

وتعبري من الدرجة الثالثة، أو حىت أحيانا الرابعة، فهي إذ تسعى لتدوين

التدويــــــــــن تقيم عينا عىل احلدث كما عــــــــــىل أثره. إن إعادة بناء احلدث من

ــــــــــات تدوينه والتعبري عنه مــــــــــن خاللها، قد حيمل خــــــــــالل البحث يف تقني

معرفة أخرى، معرفة حدث الهتجري من المرآة اليت تشكلت عىل شواطئ

حبر ارحتاالته يف الذاكرة كما يف الهجرة.

Page 9: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

1617

.2

ليس من التجين القول إن ما حيدد اليشء الفلســــــــــطيين يف العقود األخرية

هــــــــــو حركة ثنائية بــــــــــني ذاكرة الهتجــــــــــري األوىل عام 1948، ومــــــــــا جاء عقهبا

من هجرة الذاكرة إىل أقاليم شــــــــــىت يف ســــــــــعهيا اللحــــــــــوح للعودة إىل بداية

حــــــــــزي ما قبل الهتجــــــــــري والذاكرة معا. ولقد محلت هــــــــــذه احلركة، وال تزال،

شــــــــــكل المعىن األاسس الذي قام بتحديد ماسر زمــــــــــين مكاين للمأاسة

الفلســــــــــطينية واليت تتمثل بعدم إمكانية جتربة المستقبل يف فلسطني إال

عرب آخر حل مكان األنا، ويف مكان آخر غري مكان األنا. فالمراوحة يف طريق

العودة ليست خبيار، وإمنا هي رشط تعريفي للمتاح عىل المرسح التارخيي

للجمــــــــــع الذي بات ال يكون إال بفقدانه لكل مقومات مجعيته: األرض وما

علهيا من إناسن وحيوان وزرع وعمران. هذا الشــــــــــكل، الســــــــــعي المراوح

ا ثابتا إىل حــــــــــد ما، حيث مرد ذلك يــــــــــق العودة، أخــــــــــذ منحى بنيوي يف طر

ية يف فلســــــــــطني. أما ما ينبثق عنه من محولة تعبريية ما، البنية االســــــــــتعمار

فيبدو أن هذه متر بتحوالت عدة مرهونة بالوســــــــــيط التعبريي. وقد يكون

الوســــــــــيط التعبريي هو ذلك الاسئد يف مرحلة ما، مثل الكلمة المطبوعة

يف عهد رأســــــــــمالية الطباعة ودولة-القومية، وهنا فــــــــــإن احلمولة التعبريية

الفلسطينية جاءت شــــــــــعرا ملقى ومن ثم مكتوبا. أما يف المرحلة الراهنة

من الرأســــــــــمالية المتأخرة، وما ينتج عهنا من تضــــــــــاؤل ثقل دولة-القومية

وتعاظم دور المؤســــــــــاست العابرة لها، فإن الوســــــــــيط الاسئد هو صورة

التكنولوجيا الرقمية، وهنا بتدرج اســــــــــتمر قرابة عقدين أصبح الوســــــــــيط

ا، أحيانا، بل ويســــــــــود عليه، يف أحيان المــــــــــريئ يزاحم ذلــــــــــك المكتوب نص

لص هبذا إىل أن اجلماعة الفلســــــــــطينية، من حيث كوهنا مجاعة، أخــــــــــرى. خن

موطهنا ذاكرة وهجرة حمددتان تعمالن وفق منطق عمل مجاعي هو سعي

مراوح يف طريق العودة، وهذا شــــــــــكل يولد اليشء الفلسطيين، أي معىن

ا ا. والســــــــــعي المراوح يف طريق العودة يـ(تـ)شكل برصي أن تكون فلسطيني

ــــــــــا، ضمن واسئط أخــــــــــرى، يف ذات اللحظة، وعــــــــــىل األغلب إن ما ورسدي

حيسم هيئة الظهور هو تارخي عيين للفئة االجتماعية المعنية كما لألدوات

المتوافرة لها. هذا متهيد لما ميكن أن نسميه برصية المأاسة الفلسطينية.

يته اللحظــــــــــة البرصية يف كل تشــــــــــكيل اجتماعي تارخيي تنبــــــــــين من معمار

اليت تتجســــــــــد يف هيئة ظهور قابلة لالتصال والتــــــــــداول. إال أن المعمارية

االجتماعية بشــــــــــموليهتا غري قابلة لالســــــــــتنفاد حبدث ظهــــــــــور واحد مهما

كانت هيئته البرصية.4 ولرمبا ما يطمح إليه الفن، مبا هو كذلك، السعي

ا، بغية اســــــــــتنفاد يف تقعيــــــــــد هيئة ظهور تشــــــــــمل كل مــــــــــا هو كامن تارخيي

ية البناء االجتماعي القائم لتقول يف خلق جديد. والســــــــــؤال حول معمار

الفلســــــــــطيين الذي يسعى مراوحا يف طريق العودة ليس جبديد بقدر ما

ية الفلســــــــــطينية لهي يف ذكرى هو يتناســــــــــل تكرارا. إن مركز ثقل المعمار

حــــــــــدث جاء بهتجري مجعــــــــــت -وال تزال- الناس يف ســــــــــعي العودة المتكرر

واللحــــــــــوح. إال أن تعاقب األزمنة واألجيال فتح الذاكرة عىل أنواع شــــــــــىت

من الهتجري والهجرة تاركا ذكرى احلدث األول يف التواءات طريق العودة،

ــــــــــا ال يطاله واقع كمــــــــــا منــــــــــا يف أعقاب ذلك اللجــــــــــوء ليصبح معقال حصين

الذاكــــــــــرة المتحول من مقام إىل آخر. ولعله من أهم مفاصل تبصري هذه

ية الوقوف التشــــــــــكييل عىل الفضاء القائــــــــــم بني التواءات طريق المعمار

ــــــــــة تولد هيئات العــــــــــودة ومعاقــــــــــل الهجــــــــــرة المختلفة كمفاصــــــــــل عالئقي

الظهــــــــــور الفلســــــــــطينية المتعددة حتويــــــــــرا. إن هــــــــــذه الطبقة األاسس من

مل األشكال واألنواع ا صاغت جم ية الفلســــــــــطينية برصي جتســــــــــيد المعمار

التعبريية يف احليــــــــــاة اليومية والدينية كما يف األدب والفن.5 ومن الممكن

الذهاب إىل ما هو أبعد من ذلك باالدعاء أن اليشء الفلســــــــــطيين، كما

للتوسع راجع التايل: 4مرلو-بونــــــــــيت، موريس، 2008. المريئ والالمريئ. بريوت: منشــــــــــورات المنظمة العربية للرتمجة

ومركز درااست الوحدة العربية. ال يوجد أحباثا وافية عن آليات التشــــــــــكيل والتعبري الفلســــــــــطينية، هنالك أحباثا متناثرة تتمحور 5يف جماالت عينية وحبسب مواقع جغرافية أفرزها االستعمار، ومن هنا قصورها األبرز. يف هذا المجال تربز أحباث عصام نصار حول التارخي االجتماعي للتصوير يف القرن التاسع عرش وبداية

القرن العرشين، انظر:ــــــــــي المبكر يف فلســــــــــطني: 1850-1948. رام الله: نصــــــــــار، عصــــــــــام، 2005. التصوير المحلـ

مؤسسة قطان.

Page 10: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

1819

ــــــــــة هذه أكرث من أي حلظة عرفنــــــــــاه أعاله، يتحدد من خالل حلظته البرصي

متنحيــــــــــة أخرى فيه. وذلك أن حدث الذاكــــــــــرة األول، نكبة عام 1948،

كان، وال يزال، من الشمولية بدرجة أفقدت الفلسطيين اجلمعي القدرة

عــــــــــىل الفقــــــــــدان، أي إن اجلماعة من أجل أن تفقد شــــــــــيئا ما من الرضورة

المنطقية أن متلكه قبل حلظة فقدانه، والنظام االســــــــــتعماري يف فلسطني

هدم كل ما متلكه اجلماعة الفلســــــــــطينية حبيث لــــــــــم يعد لدهيا ما متلكه،

وهبــــــــــذا فقدت القدرة عىل الفقدان. بعبارة حداثية، بامتياز، هكذا جرى

إخراج اجلماعة الفلسطينية إىل نطاق خارج-تارخيي، وهبذا لم تعد لدهيم

القدرة عــــــــــىل القراءة /الكتابة احلداثيتني بل أصبحوا «عراة»، عىل األقل

ل نطاقان بنيويان يف هــــــــــذا اجلانب من وجودهم. يف هذا احلدث، تشــــــــــك

مــــــــــن الوجود الفعيل الفلســــــــــطيين، وهمــــــــــا يعمالن باجتاهــــــــــني متناقضني

بالمســــــــــتوى األفقي وباجتاه عالقة تراتبية بالمســــــــــتوى العمودي. النطاق

األول هــــــــــو عالقات تعلق تام بالســــــــــيد يف الكتابة وتبعــــــــــا قراءته المتكررة

ــــــــــا النطاق الثاين، فــــــــــكان، وال يزال، ا، أم والمتواصلــــــــــة هبدف البقــــــــــاء حي

االرتداد الفعيل إىل اجلســــــــــد هذا حبيث إنه لم يعد ميلك ســــــــــوى حواسه

الســــــــــلبية من برص وسمع وشم، أي ما يصل اإلناسن بسبب عدم موته

بعد. وهنا نرى الرتاتبية احلســـــــــــية اإلدراكية، من برص وسمع وشم، تعمل

عىل ختزين احلدث وإعادة صياغته كموقع رفض جسدي نقيض للنطاق

األول الــــــــــذي ينبين من التعلق التام بالســــــــــيد ونظامه االســــــــــتعماري. ومبا

أن الشم حاســــــــــة ثانوية يف البناء االجتماعي اآلين، غدا التخزين البرصي

والســــــــــمعي، ومــــــــــن ثم إعــــــــــادة االنتــــــــــاج عربهما، هــــــــــو األاسس يف حتديد

النطــــــــــاق اجلمعي النقيض للنظام الاسئد. لعــــــــــل أفضل مثال عىل ذلك

هو التارخي الشــــــــــفوي المتداول كحوار يدور كلما التقى الفلســــــــــطيين مع

بيه. هذا النطاق، مما ال شــــــــــك فيه، يقف يف أاسس ذاته عرب عائلته ومقر

ــــــــــة الرشط البنيــــــــــوي للمأاسة الفلســــــــــطينية؛ وذلك أن ية /ملحمي شــــــــــعر

ل التخزين والمعاجلة البرصية-السمعية هذه إذا انتقلت للتعبري المشك

ا للحالة اجلماعية اجلديدة للجماعة الفلســــــــــطينية تتطلب وسيطا مشتق

من مادية البرصي-السمعي. ويف سياق احلضارة العربية اإلسالمية، كان

الشعر هو الوسيط، من جانب، والديوان المطبوع هو مرحلة حمددة من

رأسمالية الطباعة كنموذج العمل األاسس الذي تتشكل عربه إديولوجيا

التحرر والتحقق عىل شكل دولة-القومية، من جانب آخر.

إن التحوالت يف تقســــــــــيم العمــــــــــل احليس اإلدراكي يف النظام الرأســــــــــمايل

المتأخر انعكست، أو -توخيا للدقة- جرفت الفعل الثقايف الفلسطيين،

كمــــــــــا اسئر الثقافات من العهد الاسبق. من هذا المفصل، وعىل مدى

العقديــــــــــن األخرييــــــــــن، انتقل الفعل مــــــــــن الكتابة إىل الصــــــــــورة، من حيث

ل جلماعية اجلماعة الفلسطينية والمعرب الفعل االتصايل التعبريي المشك

عهنا يف آن.6 ولقد كان هذا االنتقال ســــــــــلاس يف ظاهره، حيث إن طبيعة

التخزين والمعاجلة البرصية-السمعية تنسجم ومن ثم تناسق يف قنوات

الصوري وأشــــــــــكال عمله، إال أن السؤال حول البنية التحتية التكنولوجية

يبقى حارضا. قبل اخلوض يف إشكالية تكنولوجيا المعلومات يف السياق

الفلســــــــــطيين، أود أن أثبــــــــــت أن هــــــــــذا الطــــــــــور من الرأســــــــــمالية، وعقب

التحوالت يف تقســــــــــيم العمل احليس اإلدراكي، أفرز ذائقة حسية إدراكية

خمتلفة عما سبقها من ذائقة انبثقت من العهد الفوردي /االستعماري

التقليــــــــــدي. يف هذه الذائقــــــــــة اجلديدة، هنالك صناعــــــــــة أللفة وحلميمية

ية الكلمة /النص مــــــــــن العهد الاسبق. مأزق مــــــــــع الصورة لتتجــــــــــاوز مركز

الذائقــــــــــة اجلديدة أن ما يبدو عــــــــــىل أنه فصل وجتزئة هرمية ما بني الصورة

والكلمــــــــــة يرتد -يف الغالــــــــــب- إىل تركيبات جتمع االثنني وتردهما إىل أصل

ا واحد من حيث بنيوية عالقاهتما باإلنتاج العام. والفصل المختلف حق

هو يف المادية األاسســــــــــية لكل مهنما، وهو اجلانب الذي يسعى النظام

الرأســــــــــمايل عىل نفيه وإلغاء حضوره من عىل مــــــــــرسح الفعل االجتماعي

للتوسع حول هذا االنتقال، انظر: 6ناشــــــــــف، إسماعيل، 2008. صور المتشــــــــــظي. عند حممود أبو ههشش ونيكوال جري (حمرران)

حتوالت: ماسبقة الفنان الاشب للعام 2006. رام الله: قطان، ص 30-24.

Page 11: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

2021

التارخيي.7 تنتج الكلمــــــــــة معىن وتنتج الصورة معىن، كلتاهما جهازا إنتاج

يعمالن من خالل الزمن. فبينما يقوم جهاز الكلمة، المنطوقة والمكتوبة

عىل السواء، باالستثمار بالزمن التعاقيب، يقوم جهاز الصورة باالستثمار

بالزمــــــــــن الزتامين. يبدأ الرتكيب يف حال فهمنا أن كل «لغة» حتمل نوعي

الزمــــــــــن يف آنية متحركة عىل الــــــــــدوام، فكل كلمة هــــــــــي إذا صورة ما، من

ل لها، وكل صورة مــــــــــن جانهبا هي كلمة حيث المحــــــــــور الزمين المشــــــــــك

ما حبســــــــــب ذات القانون. هبذا، من الممكن القــــــــــول إن اللغة، أي جهاز

إنتاج المعاين يف جمتمع ما، حتمل، مبا هي كيان شــــــــــمويل، حلظات كالمية

ية لذات المعىن وحقله. االختالف احلق قائم يف مادية كل وأخــــــــــرى صور

من الكلمة والصورة، والذي -إن تتبعنا ماسراته إىل هناياهتا- قد يشــــــــــطر

لة للحركة بنيان المعىن /اللغة. من هنا، فبأاسس التناقضات المشــــــــــك

يف النظام الرأســــــــــمايل هي عملية تصفري مادية المادة من حيث وزهنا يف

تشــــــــــكيل االجتماعي التارخيي، وذلك عرب تطوير أدوات إنتاج ال «تتكلم»

ر» مادية المادة، بل تلغهيا مســــــــــبقا.8 من الممكن، إذا، فحص وال «تصو

ع اآلليات اليت يبنهيا لتصفري مادية التحوالت يف النظام الرأسمايل عرب تتب

المادة عرب ســــــــــعيه لتجسيد سيادة شــــــــــمولية وهنائية عىل المادة والتارخي

اللذين ال يزاالن يسعيان يف مقاومة هذا التوسع السيادي العنيف.9 إن

االنتقال، إذا، مــــــــــن طور إىل آخر، أي من ذاكرة وهتجري وهجرة كالمية إىل

ية، هو يف حقيقته انتقال يف مادة يشء اآللة، ذاكــــــــــرة وهتجري وهجرة صور

من الــــــــــيشء المطبوع إىل الــــــــــيشء الرقمي، كما يف آلة مــــــــــادة اليشء، من

تكنولوجيــــــــــا الماكينة اآللية-اإللكرتونية إىل التكنولوجيا الرقمية. يطفو من

هذه المداخلة السؤال حول عالقات المحاكاة /اخللق المتبادلة ما بني

للتوسع يف هذا اجلانب، انظر مداخالت روالن بارت المختلفة يف جمموعة مقاالته: 7Barthes, R., 1978. Image Music Text. N.Y: Hill and Wang.

8 للتوسع يف مادية المادة كما نستخدمها هنا، راجع:Appadurai, A., (ed.) 1988. The Social Life of Things: Commodi es in cultural per-

spec ve. Cambridge: Cambridge University Press.Miller, D., (ed.) 2005. Materiality. Durham: Duke University Press.

.Mandel, E. 1998. Late Capitalism. London: Verso 9

شــــــــــكل التخزين احليس الذهين وشكل التخزين اآليل التكنولوجي حلقبة

ما، واليت بالتأطري الرومانــــــــــيس ترى الثانية كامتداد لألوىل، بينما نرى أن

حركة من اخللق المتبادل تقف يف أاسس العالقة القامئة بيهنما يف النظام

الرأسمايل عىل أطواره المختلفة.

يبدأ الوســــــــــيط الصوري الرقمي من مادته العابرة للحيس الذهين ولكن

المتشكلة حبسب مبدأ ذهين ريايض يف جوهرها. إهنا يف هذا اشتقت من

مادهتا أهم صفاهتا التعريفية وهي ال-هنائية قدرهتا التشكيلية الفاعلة يف

ل قيمة وثقل المادة االجتماعية كل مادة اجتماعية تارخيية ما. هذا مما حيو

التارخيية وحدهثا احلــــــــــيس الذهين الال-رقمي إىل نوع من الثانوية الرابضة

عىل خفة العملية الرقمية اليت ال حتتمل.10 أما من اجلانب الفلســــــــــطيين،

فإن مادية التجربة المأاسة ال متر بعملية ختفيف وتنحيف يف االنتقال من

طور إىل آخر، وإمنا هنالك ثقل مرتاكم من طبيعة تكرار هدم القدرة عىل

الفقدان واليت جتري يف كل طور من جديد عىل يد النظام االســــــــــتعماري،

وترد التجربة من جديد إىل المادة األوىل: اجلســــــــــد وبرصه وسمعه وشمه.

إن التناقض األاسس يف السياق االجتماعي الفلسطيين يكمن يف الفجوة

المتشــــــــــكلة من التقاء اخلفة غــــــــــري المحتملة لمنطق الصــــــــــورة الرقمية مع

منطق الثقل الالهنايئ لمادة المأاسة الفلسطينية. من جرد أويل للمهشد

ا من حيث قدرته الفين الفلسطيين، يبدو أن هذا التناقض خصب جد

عىل التوليد المســــــــــتمر لصور وحكايات صور ترشــــــــــق التناقض عىل أفق

مجايل قد يفتحه عىل حله.11

حول هذا التحول وأبعاده االجتماعية والثقافية بالمستوى النظري والعميل، انظر: 10ناشف، إسماعيل، 2010. العتبة يف فتح اإلبستيم. رام الله: مواطن، ص 166-111.

11 المصدر الاسبق، ص 65-21.

Page 12: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

2223

.3

ال ميكننــــــــــا تصنيف وقياس الفن الفلســــــــــطيين المعارص فقط حبســــــــــب معايري

تــــــــــأرخي الفــــــــــن المتعارف علهيا. ذلــــــــــك أنه ككل حقل ممزي؛ فهــــــــــو -ال بد- يعيد

يــــــــــف الممارســــــــــة والمفاهيــــــــــم الــــــــــيت اسدت يف تــــــــــارخي الفن لغايــــــــــة بداية تعر

االنشــــــــــغال به. فالفن الفلســــــــــطيين مبا هــــــــــو حقل اجتماعــــــــــي تارخيي يعكس

ويصــــــــــوغ، إىل حد بعيــــــــــد، قصة هتجري ارحتال وترشذم جمتمــــــــــع بأكمله يف مناح

شىت من بقاع المعمورة. ويف هذه القصة، يلتقي الفلسطيين بأشكال حمددة

مع ثقافات شىت ليتبادل وإياها عالقات تفاعل وإخصاب مرث لكال الطرفني.

ولعــــــــــل هنالك حاجة لتفصيل كل قصة التقــــــــــاء كهذه، هبدف إعادة تركيب ، خاصة، واالجتماعي التارخيي، عامة.12 فسيفاسء الأشن الفلسطيين الفين

يف ســــــــــياق هذا المعرض، هنالك عدة ســــــــــياقات وأشــــــــــكال من التنافذ

القرسي وذلك شــــــــــبه االختيــــــــــاري بني التجربة الفلســــــــــطينية وحقول فنية

شــــــــــىت، كما حماولة هذه احلقول من التواصل مع التجربة الفلســــــــــطينية.13

الســــــــــياق األول هو جتربة أاسمة سعيد، اليت بدأت منذ مطلع مثانينيات

القرن العرشين، يف الســــــــــياق األلماين حتديدا يف برلني. الســــــــــياق الثاين هو

جتربة زهدي قادري، اليت بدأت منذ أواسط تسعينيات القرن العرشين،

يف الســــــــــياق الرويس، حتديدا يف بطرسبورغ. الســــــــــياق الثالث هو السياق

حول الفن الفلسطيين، انظر: 12شموط، إسماعيل، 1989. الفن التشكييل يف فلسطني. الكويت: د. ن.

بالطة، كمال، 2000. اســــــــــتحضار المكان: دراسة يف الفن التشكييل الفلسطيين المعارص. د. م.: المنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم.

Ankori, G., 2006. Pales nian Art. London: Reaktions Books.Boullata, K., 2009. Pales nian Art. London: Al Saqi Books. إن عالمية التجربة الفلســــــــــطينية، من حيث تأثريها عىل فئات وجمتمعات شــــــــــىت، من جانب، 13والتأثريات الوافدة إلهيا عن طريق الهجرة والعمل والتعليم، من جانب آخر، لم تدرس بشكل ، حيــــــــــاول كمال بالطة يف كتابه اســــــــــتحضار المكان (انظر معمــــــــــق بعد. خبصوص اجلانب الفينالهامش الاسبق) أن يقرن بني مكان معيشة الفنان، يف فلسطني أو خارجها، واألسلوب الفين يدا الذي يســــــــــتخدمه، حيث يدعي أنه كلما ابتعد الفنان/ة عن فلســــــــــطني أصبح فنه أكرث جتروأقل اعتمادا عىل الشــــــــــكل اآلدمي والرسدية المبارشة. هذا المعيار إشكايل من الدرجة األوىل الســــــــــترشاقيته، فضال عن أنه قد ال ينطبق إال عىل جزء من جيل حمدد من الفنانني/ات الذين بدأوا حياهتم الفنـية يف مخســــــــــينيات وستينيات القرن العرشين، ولعل مثال إبراهيم نوباين خري

دليل عىل ذلك.

االستعماري القرسي، فلسطني المحتلة، كما يتجىل يف جتربة أنيسة أشقر

ــــــــــد يعقويب وحممد فضل. أما جتربة إســــــــــماعيل حبــــــــــري، فهي يف أفق ومهن

المهجــــــــــر العريب الفرنيس الــــــــــذي يعيد قراءة احلضارة العربية اإلســــــــــالمية

من خــــــــــالل هجرته العائــــــــــدة دوما إىل المتجــــــــــدد مهنا. إن قــــــــــراءة التجربة

ــــــــــة، والفرنيس، حتديدا، الفلســــــــــطينية عرب المهجر العــــــــــريب المعارص، عام

يفتحها عىل فهم أبعاد جديدة وغري مطروقة يف الذاكرة والهتجري والهجرة

الفلســــــــــطينية لرتى إىل المشــــــــــرتك الوجداين والتارخيي يف التجربة العربية

اإلســــــــــالمية المعارصة. وحيتوي المعرض عــــــــــىل اجتاه آخر يقوم عىل الغرف

من التجربة الفلسطينية، كما يف جتربة فازال شيخ وجتربة المهجر اآلسيوية

مل األعمال المعروضة، إذا، تتســــــــــم األفريقية يف الواليات المتحدة. إن جم

ع ماشرب واحنناءات التجربة الفلسطينية منذ أن ارتبطت ل تنو ث بتنوع مي

ــــــــــة، ولكهنا بذات قــــــــــرسا بالمرشوع االســــــــــتعماري الغريب يف طبعته المحلـي

الوقت تقف عىل ما يؤهلها لرتى إىل ما هو أبعد وأعمق وأشمل منه.

ــــــــــل يف هذه اللوحــــــــــات واألعمــــــــــال الفنـية للوهلــــــــــة األوىل، يتبــــــــــادر للمتأم

ــــــــــة جتري قولبهتا أن التجربــــــــــة الفلســــــــــطينية حارضة كمادة اجتماعية تارخيي

حبســــــــــب اللغة الفنـية للســــــــــياق العيين الذي عاشــــــــــه، وال يزال يعيشــــــــــه،

الفنان/ة. فرنى أن الذاكــــــــــرة والهتجري والهجرة، كمحاور مضامينية حتمل

ن عرب تقنيات نابعة من السياق العيين (كلغة المأاسة الفلسطينية، تدو

التعبرييني اجلدد األلمان لدى أاسمة سعيد -عىل سبيل المثال). ولكن

ال يبقى التدوين مبســــــــــتوى التقنية فقط، بل يتعداه إىل أبعاد التشــــــــــكيل

وتركيب النســــــــــيج البرصي ومن ثم اجلوانب الشكالنية واجلمالية للعمل.

من هذا المنظور «اللغوي» للتأمل يف األعمال، تغيب اللحظة البرصية

ل اللحظة الفلسطينية لتخضع للغة فنـية أخرى، والسؤال هو: هل تشك

ية يف عملية تشكيلها، لتقنيات البرصية الفلسطينية كمونا إزاحة ما رضور

التدويــــــــــن المتحولة ذاهتا؟ أم إن اإلزاحة ال تتعــــــــــدى ما جرى يف االنتقال

ع من طور رأســــــــــمايل إىل آخر، أي االنتقال من الكتابة إىل التبصري؟ إن تتب

Page 13: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

2425

فلســــــــــطـنة تقنيات التدوين يف الســــــــــياقات المختلفة لهذا المعرض قد

ــــــــــات عمل احلدث الفلســــــــــطيين الاسعي لتجــــــــــاوز النكبة يكشــــــــــف لنا آلي

وتبعاهتا عرب تشكيل حمدد لما هو ذاكرة وهتجري وهجرة حتمل احلدث األول

إىل مــــــــــا قد يكــــــــــون أحداثا قادمة تؤدي إىل هضم التناقض االســــــــــتعماري

باالنعتاق من أصول النظام التعبريية واجلمالية.

لعل أهم ما يف الفلســــــــــطنة (يف الســــــــــياق الفين عىل األقل -وكما جاء أعاله)

هما حموران تشكيليان أاسسيان: الثبات البنيوي للسعي اللحوح المراوح

يــــــــــق العودة، كمبــــــــــدأ يف التبصري؛ وازدياد مطرد لثقــــــــــل مادة المأاسة يف طر

الفلســــــــــطينية بارتدادها المتكرر للجسد -برصه وســــــــــمعه وشمه- مع تكرار

ترجيعي حلدث مأاسة عام 1948. فالمحور األول بات يتمزي، منذ أواسط

تســــــــــعينيات القرن العرشين عىل األقل، بتاسرع الســــــــــعي وكثافة المراوحة

يف هنايــــــــــة طريق العودة هــــــــــذا حبيث إن تقنيات التدوين اليت تســــــــــتخدم متر

بعملية تكثيف تأخذها إىل أقصاها، (حنو: متزيق القماشــــــــــة يف بعض أعمال

زهدي قادري، والعمل عىل السعي حبد ذاته يف أعمال أنيسة أشقر ومهند

يعقويب). أما خبصــــــــــوص المحور الثاين، فإن ازدياد ثقــــــــــل المادة المأاسوية

ا يف اســــــــــتخدام تقنيات تدوين خفيفة لتربز ثقل المادة عن طريق توازى فن

البــــــــــؤرة واخللفية (كما يف صور فازال شــــــــــيخ وفن الفيديو لدى مهند يعقويب

الذي يعــــــــــرض حلظة احلــــــــــدث التكراري بقمتــــــــــه المأاسوية وخبفة اقتباســــــــــه

ــــــــــة اليت ال حتتمل، ومــــــــــن جانب آخر، ثقل األلــــــــــوان ورصاخها اللييل التوثيقي

لسطنة من نوع آخر غري مألوفة الطويل لدى أاسمة ســــــــــعيد). هذه بداية ف

يف المهشد الفين الفلسطيين عىل أطواره المختلفة، من إعالن إىل توثيق إىل

استخدام لغات فنـية متعددة، وما إىل ذلك. ولعل مرد هذه الممزيات هو

يف الســــــــــعي الفردي اجلمعي لهؤالء الفنانني/ات يف خلق فضاء فلســــــــــطيين

ال ينتج مســــــــــبقا عن فعل ســــــــــيايس ما، وإمنا هو هو الذي خيلق الســــــــــيايس

ا. حان موعد العودة إىل القماشة والاششة. ا وأخالقي الممكن مجالي

.4

يتمــــــــــزي احلضــــــــــور األلماين يف لب المــــــــــأاسة الفلســــــــــطينية بطغيانه، وليس

بسبب أحداث احلرب العالمية الثانية، وإمنا بكون المرشوع االستعماري

الصهيوين امتدادا، والحقا حتويرا، لما تشــــــــــكل يف ألمانيا ما بني أواســــــــــط

القــــــــــرن الثامــــــــــن عرش وأواســــــــــط القرن التاســــــــــع عــــــــــرش. الفكــــــــــر يف احلركة

ــــــــــة، انطلقا من البيئة الصهيونية، كما الممارســــــــــة المؤســــــــــاستية والفردي

ــــــــــارات أخرى، باألاسس ــــــــــة التارخيية األلمانية لينشــــــــــبكا مع تي االجتماعي

ــــــــــا عملية صقل هذه احلركة من خالل جتربــــــــــة الهيود الروس، لتجري الحق

ع حركة األفكار والبضائع والبرش النموذج «األلماين-الــــــــــرويس».14 إن تتب

عىل المحور األلماين الرويس سيكشــــــــــف لنا العديد من اجلوانب اخللفية

اليت اسهمت مبارشة، وبأشكال أخرى، يف تأسيس النظام االستعماري

الصهيــــــــــوين يف فلســــــــــطني. قد يكون من أهم هذه احلقــــــــــول اخللفية احلقل

، عىل طبقاته وعملياته المتعددة، حيث إن الفحص األويل يشــــــــــري الفين

إىل حركة نشــــــــــطة بني اجلانبني منذ النصف الثاين من القرن التاســــــــــع عرش

تتوجت حبضور فاسيل كاندنسكي يف بداية القرن العرشين ومع جمموعة

ــــــــــم تنقالتــــــــــه المتعــــــــــددة بيهنما «The Blue Rider“ يف ألمانيــــــــــا، ومــــــــــن ث

ــــــــــارات الفنـية فمما ال واســــــــــتقراره الحقا يف ألمانيــــــــــا.15 أما من حيث التي

شــــــــــك فيه أن هنالك عالقات مــــــــــن التناص المكثفة ما بــــــــــني التعبرييني

األلمــــــــــان والباوهاوس والشــــــــــكالنيني الــــــــــروس.16 ولقد كان لهــــــــــذه البنية

ــــــــــة مــــــــــن العالقات يف جمــــــــــال الفن، كما يف جماالت أخــــــــــرى، أن تقوم التحتي

بدور أاسيس كفضاء تتشــــــــــكل عــــــــــىل خلفيته احلركــــــــــة الصهيونية، ولعل

أبــــــــــرز األمثلة عىل ذلك بوريس اشتس مؤســــــــــس مــــــــــرشوع بتاسلئيل يف

للتوسع يف هذا الموضوع، انظر: 14ناشــــــــــف، إسماعيل 2005. فك الصهيونية: الفضاء واإليديولوجيا يف المدينة اإلرسائيلية.

بري زيت: معهد إبراهيم أبو اللغد للدرااست الدولية. للتوسع يف هذا الموضوع، انظر: 15

DuIch ng, H., 2000. Wassily Kandinsky 1866 - 1944: A revolu on in pain ng. Koln: Taschen.

المصدر الاسبق، ص 77-64. 16

Page 14: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

2627

القــــــــــدس وحركته يف الفضاء الممتد بني روســــــــــيا وألمانيا.17 أما خبصوص

اجلانــــــــــب الفلســــــــــطيين، فلعل عبد عابدي هو من أوائــــــــــل الفنانني الذين

انشبكوا هبذا الفضاء األلماين الرويس، ببنيته األصلية وبتحويره الهيودي

الصهيــــــــــوين معا، وذلك عندما حصل عىل منحة ليدرس الفن يف درزدن،

ألمانيــــــــــا الدميوقراطية آنــــــــــذاك. إن اللغة الفنـية الــــــــــيت ركهبا عبد عابدي

عرب أعماله وعرب جريدة «االحتاد»، شــــــــــكلت البنية التحتية البرصية اليت

بدأ من خاللها الفلســــــــــطيين بتدوين ذاكرته وهجرته يف الوســــــــــيط المريئ.

ولقد تتلمذ أاسمة ســــــــــعيد عىل يد عبد عابدي يف دورة للرســــــــــم يف كفر

ياسيف يف عام 18.1979 بعد سنة من ذلك، حاول االنتاسب إىل كلـية

بتاسلئيــــــــــل للفنون يف القدس، إال أنه لم يقبل. وعن طريق «الصدفة»،

وصل إىل برلني ليقبل يف جامعة الفن فهيا حيث أمىض العقد الثامن من

ج مهنا بامتياز. القرن العرشين يدرس فهيا إىل أن ختر

من المفارقات الالفتة للنظر أن الفلســــــــــطينيني يف المناطق المحتلة عام

1948 كانوا من أكرث ممن اســــــــــتفادوا من العالقــــــــــات األلمانية الصهيونية

يف فرتة ما بعد احلرب العالمية الثانية. ففي ســــــــــعهيم للتحرر من ســــــــــيطرة

قبضة النظــــــــــام المحكمة علهيم يف جمال احلــــــــــراك االجتماعي عرب التعليم

العــــــــــايل، وجــــــــــد هــــــــــؤالء الفلســــــــــطينيون أن ألمانيا، الــــــــــيت تعاملت معهم

كإرسائيليني بســــــــــبب جواز الســــــــــفر الذي حيملونه، هــــــــــي منفذ جيد ألهنا

ال تضــــــــــع قيودا عىل التعليم اجلامعي من حيث رشوط القبول أو المجال

التعليمــــــــــي، وأن التعليم العايل جماين، وأحيانا تتوافر إمكانية المنح أيضا.

مــــــــــن هنا، فقد توالت منذ ســــــــــتينيات القرن العرشيــــــــــن أعداد كبرية من

هــــــــــذا اجلزء من المجتمــــــــــع الفلســــــــــطيين إىل ألمانيا للدراســــــــــة، حبيث إن

خبصوص انشباك الفن يف احلركة الصهيونية عىل خلفية المحور الرويس األلماين الثقايف، انظر: 17تســــــــــلمونا، جيآل، 2010. 100 عام فــــــــــن إرسائييل. القدس: متحــــــــــف إرسائيل، ص 47-13

(بالعربية).للتوسع حول حياة عبد عابدي وأعماله، انظر: 18

بن تسيب، طال (حمررة)، 2010. عبد عابدي: 50 عاما من اإلبداع. أم الفحم: صالة العرض للفنون.

تتايل األجيال أســــــــــس لنوع من اإلرث أو الهنج المتبع يف مواجهة السقف

الزجاجي االســــــــــتعماري. فعندما لم يتمكن أاسمة سعيد من االنتاسب

ــــــــــة بتاسلئيــــــــــل للفنون، فإحــــــــــدى اإلمكانيات المتاحــــــــــة له آنذاك إىل كلـي

كانت االلتحاق بإحدى اجلامعــــــــــات األلمانية.19 لقد هشدت بداية عقد

الثمانينيات من القرن العرشين يف احلقل الفين األلماين تثبيت سواد تيار

التعبرييني اجلدد من أمثال جورج باسليتس وأناسلم كييفر.20 فباإلضافة

إىل البذور التعبريية اليت أخذها أاسمة من عبد عابدي، مما ال شك فيه

كادمييا األلمانية مع حلظة التعبريية اجلديدة أن تزامــــــــــن حلظة دخوله إىل األ

س للغة فنـية حمددة لدى أاسمة. أس

يف معرض ذاكرة وهجرة هنالك أربع لوحات ألاسمة سعيد هي:

مدينة حتت احلصار، 2007، زيت عىل قماش، 170×200. -1

ضحية 1، 2011، زيت ورماد عىل قماش، 160×180. -2

ضحية 2، 2011، زيت ورماد عىل قماش، 140×160. -3

ضحية 3، 2011، زيت ورماد عىل قماش، 140×160. -4

تتمزي هذه اللوحات بلغة فنـية تعتمد المالحم األاسسية للتعبرييني اجلدد

وإن بتحويرات وتركيبات لها عالقة مبارشة مبحوري الفلسطنة. فاللوحة

مدينة حتت احلصــــــــــار (2007) تعرب عن اللحظة الملتصقة بهناية حدث

المأاسة، أو هي جزء منه، حيث هنالك شــــــــــخصيتان آدميتان، كلتاهما

مبقطــــــــــع جانيب، إحداهما تقف واألخرى تقرفص، أيدهيما عىل رأســــــــــهيما

حول موقع التعليم العايل لدى الفلســــــــــطينيني يف المناطق المحتلة عام 1948 عامة، وجتربة 19الدراسة يف ألمانيا حتديدا، انظر:

كادمييني العرب خرجيي اجلامعات حاج حيىي، قيص، 2002. احللــــــــــم والواقع: حبث حول األ األلمانية يف إرسائيل. تل أبيب: رموت-جامعة تل أبيب.

ــــــــــد، 2006. التعليــــــــــم العايل لدى الفلســــــــــطينيني يف إرسائيــــــــــل: حتدي حالة مصطفــــــــــى، مهن الهامشية. أم الفحم: إقرأ-اجلمعية العربية لدعم التعليم يف الوسط العريب.

حول بداية التعبريية األلمانية ومالحمها وراسمهيا بشكل عام، انظر: 20Elger, D., 2007. Expressionism: A revolu on in German art. Koln: Taschen.Dube, W. B., 1985. The Expressionists. London: Thames and Hudson.

حول التعبرييني اجلدد، انظر: Janson, H. W., 1995. History of Art. London: Thames and Hudson, pp. 794-815.

Page 15: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

2829

وكأهنمــــــــــا مينعان هبذا تلقي الرضبات من قبل اجلاين عىل الرأس، وهما يف

حاكورة مشجرة بقيت مهنا شجرة زيتون واحدة بينما قطعت األخريات،

ويف اخللــــــــــف بيت يبدو مهجورا. ففي بؤرة اللوحة األمامية هنالك فرع /

جذع شجرة مقطوع وملقى عىل األرض بشكل عريض للوحة يف مواجهة

الماشهد، ومن ثم يقف الشكل اآلدمي إىل جانب شجرة الزيتون، بينما

الشكل اآلدمي الثاين المقرفص يقع يف عمق غري بعيد عهنما ليليه يف بعد

أعمق شجرة ومن ثم البيت. فهذا الرتتيب لفضاء اللوحة يرافقه باليت

(Pallete) لــــــــــوين ممزي يبدأ من أســــــــــود البيت، ليمتد إىل أخرض الشــــــــــجر،

فأصفر اخللفية العامة، إىل أن يصل برتقايل /أمحر النار، حيث إن الالفت

ية األلوان هذه ني عىل جممل اســــــــــتمرار للنظر هو احتواء الشــــــــــكلني اآلدمي

وكأهنمــــــــــا مرا بكل حمطات تركيبة الدراما اللونية. كمهنج التعبرييني اجلدد،

ال أهمـية هنا لمحاكاة الطبيعة أو للشــــــــــكل الهنديس المجرد، بل توجد

أشكال ”بدائية/أولية“ تعريفية حتدد دراما عاطفية مشحونة عرب ترتيب

ــــــــــة يف كلـية العمل. فمرسح ن فضايئ لــــــــــوين، مبا هي عنارص تركيب متضم

اجلرمية األســــــــــود، البيت، يف اخللف والضحايــــــــــا يف األمام بني األمحر الناري

واألخرض احلارس، وهما ال هيربان بل يعياشن حلظة الربزخ ما بني احلدث

ل منطلقة يف السعي اللحوح وبعده، حيث تبدأ الهوية اجلديدة بالتشك

ــــــــــة، هنالك ثقل تركيبـي لكن المــــــــــراوح يف طريق العودة. ويف اللوحة عام

لوين يتأىت من شــــــــــكل الدجم ما بني الرتكيب واللون. فبالرغم من المقولة

أن كل فنان خيلق لغته اللونية، فإن ما ميزي هذه اللوحة هو تلك الظالل

ذات الثقــــــــــل النوعي لأللوان، حبيث إن وظيفهتا الرتكيبية األاسســــــــــية يف

مقابلــــــــــة ثقل مادة اللون بثقل مادة المأاسة المعرب عهنا. فإذا كانت لغة

ــــــــــة اجلديدة هي كيفية نقل المادة العاطفية إىل مادة تشــــــــــكيلية، التعبريي

نرى أن أاسمة سعيد جسد هذه العملية بإتقان نقل التدوين إىل عملية

لة للفلســــــــــطيين منذ 1948 ومتكرر ترشحي برصي للحظة احلدث المشــــــــــك

بثقل المادة منذ ذلك احلني إىل يومنا هذا.

تبدو اللحظــــــــــة البرصية يف المجموعة الثانية من لوحات أاسمة ســــــــــعيد

كتطــــــــــور مأاسوي للمأاسة األوىل، تطورا ميســــــــــك بالمبــــــــــدأ الناظم للثقل

المرتاكم يف مادة جســــــــــد المأاسة من خالل مأاسة اجلســــــــــد الفلسطيين

المتكــــــــــررة. متســــــــــك اللوحة األوىل ضحيــــــــــة 1 (2011) حلظة انهتاء ارتطام

اجلســــــــــد باألرض بعد وقوعه عنوة علهيا، حيث نرى الماكينة الســــــــــوداء

تقف فوقه بعد أن أنـزلت قاضيهتا عليه. وكأن ما جرى يف حاكورة البيت

بعــــــــــد اللحظة /اللوحــــــــــة األوىل، واليت وقفت /قرفصــــــــــت فهيا الضحية،

خروج الماكينة الســــــــــوداء من البيت وانقضاضها عىل الضحية وإخضاع

جسدها بشكل شبه هنايئ. فاجلسد منبطح عىل ظهره، يواجه أعىل الرأس

كتاف الماشهــــــــــد، واليدان مفتوحتان حبيث تشــــــــــكالن مع الــــــــــرأس واأل

ــــــــــب. يربز الصدر ككتلة صعدت من شــــــــــدة رضبة ل وضعية شــــــــــبهية بالص

كتاف واليدين الماكينة الســــــــــوداء، وهبذا يشكل نقطة ارتكاز للرأس واأل

ني متوازيني، كل مهنما شبيه معا. الماكينة السوداء عبارة عن شكلني أولي

مبســــــــــتطيل عامودي وفيه خطــــــــــوط أفقية، يذكر بعجالت و/أو بســــــــــطار

ــــــــــة تربط بيهنما وتوحي جبســــــــــد الماكينة. عســــــــــكر، يعلوهما خطوط أفقي

متتد ألوان اللوحة من أبيض موت اجلســــــــــد وبرتقايل خيط الاسئل الذي

يفــــــــــرزه الفم والرأس، مــــــــــرورا بالبين األصفر الفاهــــــــــي، إىل اخلردل القاتم،

فبقعة رمادية تلف اجلسد، إىل أسود كأنه يكرسها مجيعا برضبة واحدة ال

ا يف المهشد كأهنا نوع من تدرج فهيا. هبذا فالدراما اللونية تنشبك بنيوي

جســــــــــده وليست ببيئة حتتضن جســــــــــد المهشد. بالرغم مما يبدو عىل أنه

ا يف الرتكيب رضبة قاضية للجســــــــــد الملقى أرضا، فإن هنالك توترا برصي

يوحي بأن القصة لم تنته هنا. فمن جانب، هنالك ارتفاع طفيف للرأس

عن األرض جرى إجنــــــــــازه عرب تظليل األلوان، ومن جانب آخر، هنالك يف

كتلة اجلسد الممتلئة من احلياة حىت يف موهتا. شبه هناية، شبه أمل.

اللوحتان ضحية 2 وضحية 3 (2011)هما حتوير عىل اللحظة /احلدث

األول، وقد يكونان هما احلدث التارخيي بينما ضحية 1 هي تبصري لفكرة

مدينة حتت احلصار، 2007، زيت عىل

قماش، 170×200.

ضحية 1، 2011، زيت ورماد عىل

قماش، 160×180.

Page 16: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

3031

احلدث. يف األوىل ضحية 2، ويف المقطع األمامي للوحة، جسدان ملقى

كل مهنما فوق اآلخر يف مقطع جانيب، جسد ظهره إىل األرض ووجهه إىل

السماء، واجلسد اآلخر فوقه وجها لوجه وظهره إىل السماء حيث وضعية

اليد تشــــــــــري إىل أهنا كانت حتتضنه لتحميه قبل أن تفقد الســــــــــيطرة علهيا.

ني من فوقهم، خيرج من الماكينة الســــــــــوداء مجع يتجســــــــــد يف شكلني آدمي

يرفعان يدهيما حبركات رضب باجتاه اجلســــــــــديني الملقيني عىل األرض. من

وراء الشــــــــــكلني خطوط سوداء طولية وعرضية خثينة تعطي أحيانا أشكاال

هندســــــــــية حمددة جرت تعبئهتا بألوان. األلــــــــــوان متتد من األبيض الثلجي

إىل األصفر، فالبين الرمادي، فاخلردل الاسئد متقابال مع األســــــــــود الذي

يكرس شــــــــــبه التدرج اللوين، فأمحر الدم. إن الدراما هنا هي يف تشكيالت

اخلردل، مع دجم متدرج لألخرض واألصفر، والذي يقطعه لونان األســــــــــود

واألمحــــــــــر ليمزيا طــــــــــريف النقيض يف العمــــــــــل ككل. إن العالقــــــــــة احلركية بني

الشكل اآلدمي من اجلهة اليرسى واجلسدين الملقيني عىل األرض تشكل

ا حول كنه عملية القتل -أو بعبارة أخرى، الدراما اليت تفتح ســــــــــؤاال برصي

من هو اإلناسن /اجلاين؟

أما اللوحة ضحية 3 (2011) فهي ممزية من حيث إهنا تعرض حلظة برصية

ــــــــــة قتل، تتوجي الضحية عىل أخــــــــــرى لذات احلدث، إهنا حلظة إعالنه كعملي

عرهشا. جسد ملقى عىل األرض ظهره إىل أسفل ووجهه إىل السماء، أعىل

رأســــــــــه باجتاه الماشهد، يــــــــــداه مفتوحتان عىل مداهما مبــــــــــا ياشبه عملية

الصلب. مجع غفري يقف من فوق اجلســــــــــد، يرفع يديه إىل أعىل، يف البداية

ال يبدو األمر واضحا متاما: هل األيادي مرفوعة إلعادة الرضب مرة أخرى،

أم هي استنجاد، أم إهنا ندب وبكاء؟ مع التدقيق، فاألرجح أهنا استنجاد

وندب وبكاء معا، فهي أشــــــــــكال أيد رفعت بزاوية شــــــــــبه قامئة باجتاه دفع

إىل الــــــــــوراء، ال بزاوية 45 درجة اليت حيتمها كون الضحية ملقاة عىل األرض

وذلك عنــــــــــد التحرك لرضهبا. وعندما نصل إىل األلوان، حتســــــــــم المأسلة

بطبقة لونية زرقاء ترافق اخلط األسود الثخني، اجلاين والنادب والمستنجد

هم ذات الشخص، فكيف يكون هذا؟ عىل العكس من اللوحات الاسبقة

من ذات السلســــــــــلة، األلوان يف هــــــــــذه اللوحة متنوعة أكرث وحتديدا األرض

حتت رأس اجلسد. فباإلضافة إىل األلوان اليت تبدأ من أبيض الثلج، مرورا

باألصفر والبين الرمادي فاخلردل فاألســــــــــود واألمحر كحدين، هناك األزرق

ا جديدا مبستوى بنيوية العمل ككل. فاألزرق مييش الذي خيلق حراكا لوني

أحيانا بتواز لألســــــــــود، وأحيانا أخرى يستقل عنه ولكنه حياوره يف األشكال

اآلدمية اليت تقف فوق اجلسد الملقى. وكأن األلوان المختلفة عىل األرض

هي انكاسر لرصاع /اندماج األزرق واألســــــــــود يف أعىل اللوحة. حتمل هذه

الرتكيبة اللونية شــــــــــحنة عاطفية تنتج من دراما القتل ولكهنا غري واثقة من

هوية القاتل، فبتكرار حدث القتل /المأاسة قد تصبح المســــــــــؤولية عىل

الضحية بقدر ما هي عىل القاتل الفعيل.

إن كان الفنانون التعبرييون اجلدد قد قاموا ببناء فضاء تشــــــــــكييل يعكس

عواطفهــــــــــم ورصاعاهتا المختلفة، فمما ال شــــــــــك فيه أن أاسمة ســــــــــعيد

أخذنا خطــــــــــوة باجتاه جديد يف أعماله هذه. فمادة المأاسة اليت يتناولها

حتمت عليه بناء فضاء تشــــــــــكييل للجماعة الضحية ال للفرد، هذا حبيث

إن كثافة مادة اجلماعة صاغت حلظة برصية غري قابلة للحل إال باستنفاد

الــــــــــرصاع إىل آخر قطرة دم فيه. لم ترتك بنيــــــــــة المأاسة اجلماعية للضحية

كما شــــــــــكلها أاسمــــــــــة إمكانية للســــــــــعي، هربا أو جلوءا أو حــــــــــىت هجوما،

بل هي جتســــــــــيد تزامين لــــــــــكل ما هو ممكن يف الضحية من ســــــــــعي وثقل.

والسؤال الممتد يف ثنايا حركة الفراشة هو حول وظيفة نكبة عام 1948

حني وقفت الضحية لتاشهد ما جرى لها يف التأصيل لضحايا الثورات

العربية، واليت لم تتح للضحية فرصة ماشهدة قاتلها إال من وراء حجاب

الموت لونا.

ضحية 2، 2011، زيت ورماد عىل

قماش، 140×160.

ضحية 3، 2011، زيت ورماد عىل

قماش، 140×160.

Page 17: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

3233

.5

هنالك أكرث من خيط ميتد بني مرشوع احلداثة يف العالم العريب اإلسالمي

ومــــــــــرشوع احلداثة الرويس عىل أطوارهمــــــــــا المختلفة. فالعالقات المركبة

ا للجهتني مع المركز األورويب، والحقا األورو-أمريكي، خلقت بعدا بنيوي

يعرف كلهيما عرب الفجوة القامئة جتاه المركز، فجوة غري قابلة للردم ما دام

المرشوع يتحــــــــــدث لغة احلداثة األوروبية حماكيا إياها، حيذو حذوها دون

هبم، أن يكون. ونالحظ أن أغلب احلداثيني، عىل اختالف منابهتم وماشر

يرون التجربة العربية وتلك الروسية كفشل ذريع يف حتقيق حداثة جديرة

باســــــــــمها. يف مقابل هــــــــــذا الرأي، نرى أن الفن الــــــــــرويس احلديث اسهم

ــــــــــارات الفن احلديثة، بل من كبري ماسهمــــــــــة يف صياغة وحتديد أغلب تي

الممكــــــــــن القول إنه من أهم أعمــــــــــدة المودرنزيم الفين كما نعرفه اليوم.21

ولعــــــــــل ما ميزي احلداثــــــــــة األوروبية هو عدم قدرهتا عــــــــــىل رؤية أي يشء أو

وضــــــــــع أو حدث ما هو ليس هي، أو صورة حماكية لها. وهذا ينطبق عىل

العالم العريب اإلســــــــــالمي، بــــــــــل قد تكون هذه هي احلالــــــــــة بامتياز لعدم

القــــــــــدرة البنيوية عىل رؤية المختلف.22 والســــــــــؤال هنا: ما الذي ميكن أن

ز عىل حيصل حني يلتقي المختلفان؟ وبســــــــــبب من بؤرة معرضنا ســــــــــرنك

العالقات الروســــــــــية الفلسطينية مبستوى الثقافة والفن بالذات لنحاول

قراءة أعمال زهدي قادري بذات األدوات الفنـية اليت يستخدمها.

للتوسع حول الثقافة الروسية عامة، انظر: 21Rzhevsky, N., 1998. The Cambridge Companion to Modern Russian Culture.

Cambridge: Cambridge University Press.Figes, O., 2003. Natsha’s Dance: A cultural history of Russia. N.Y.: Picador.

أما بالنسبة للفن الرويس احلديث، فانظر: Bowlt, J., 2008. Moscow & St. Petersburg 1900- 1920: Art, life, & culture of the

Russian silver age. N.Y.: The Vendome Press.Burleigh-Motley, M., and Gray C., 1986. The Russian Experiment in Art 1863-

1922. London: Thames and Hudson. 22 هنالــــــــــك عدد كبري من األحباث حول هذا الموضوع. من الكتب الكالســــــــــيكية يف هذا الأشن

كتاب إدوارد سعيد حول االسترشاق، انظر: ســــــــــعيد، إدوارد، 2003. االسترشاق: المعرفة، السلطة، اإلناشء. بريوت: مؤسسة األحباث

العربية، ط6.

إن العالقات الروسية الفلسطينية، بشكلها احلديث، ترتد إىل المدارس

التبشــــــــــريية احلديثة الــــــــــيت أقامها الروس يف بيت جــــــــــاال ويف النارصة. هذه

المدارس خرجــــــــــت أجياال من المحدثني الفلســــــــــطينيني والعرب، أمثال

يادة.23 ولقد اســــــــــتمرت هذه العالقات بأشــــــــــكال ميخائيل نعيمة ومي ز

متعــــــــــددة بعد احلرب العالمية األوىل وســــــــــقوط اخلالفــــــــــة العثمانية وثورة

أكتوبــــــــــر، وإن كانت هــــــــــذه الفرتة ال تبحث يف المعتــــــــــاد. ما هيمنا يف هذا

الســــــــــياق هــــــــــو التحــــــــــول النوعي يف العالقــــــــــات بعد نكبة العــــــــــام 1948،

وحتديدا مع المجتمع الفلســــــــــطيين الذي بقــــــــــي يف المناطق اليت احتلت

يف ذلــــــــــك العام. لقد جــــــــــرت قنونة العالقات بني الفلســــــــــطينيني واالحتاد

الســــــــــوفيايت عرب احلزب الشيوعي اإلرسائييل وحيث شكلت هذه القناة،

عىل امتداد أربعة عقود، المنفذ الوحيد الممكن لهذا اجلزء من المجتمع

الفلســــــــــطيين إىل العالم اخلارجي دومنا أن يكون عرب النظام االســــــــــتعماري

اإلرسائيــــــــــيل مبارشة. ومن هنا تنبع أهمـية العالقات المركبة بالمســــــــــتوى

السيايس الثقايف العام، من حيث موقف االحتاد السوفيايت وكونه قطب

ية، ومن ثم اإلطار الفكري األخاليق الذي وفره. التعاطــــــــــف واحلماية الرمز

جــــــــــزء أاسيس من هذا اإلطــــــــــار هو المنح العلمية الــــــــــيت توافرت للمئات

من الفلسطينيني ليكملوا دراسهتم اجلامعية المهنية والعلمية. من هؤالء

عدد حمدود اسفــــــــــر ليدرس الفن واإلخراج الســــــــــينمايئ والمرسحي. ويف

الفرتة اليت تلت ســــــــــقوط االحتاد الســــــــــوفيايت، تواصل ســــــــــفر العديد من

الفلســــــــــطينيني إىل المعاهــــــــــد واجلامعات يف روســــــــــيا ليكملوا درااسهتم،

كادميية اإلرسائيلية و/أو لكون وذلــــــــــك إما لعدم قبولهم بالمؤسســــــــــة األ

المعيشة اليومية، آنذاك عىل األقل، رخيصة قيااس إىل دول أخرى.

Saint كادميية الفنـية يف يف هــــــــــذا الماسر، بدأ زهدي قادري دراســــــــــته األ

Petersburg Art and Industry Academy, Alexander von

من الدرااست القليلة حول هذا الموضوع دراسة حنا أبو حنا، انظر: 23أبو حنا، حنا، 1994. دار المعلمني الروسية يف النارصة «السمنار» (1886-1914)وأثرها

عىل الهنضة األدبية يف فلسطني. د. م.: دائرة الثقافة العربية.

Page 18: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

3435

S والمهشــــــــــورة بأكادميية موخينا، يف أواســــــــــط تســــــــــعينيات القرن eglitz

المايض. يبدو أنه لم يكن من الصدفة مبكان اختياره للغة فنـية حمددة من

كادميية الروسية للفن. فالمودرنزيم مجلة اللغات اليت ميكن ممارسهتا عرب األ

الرويس عىل طبعاته المختلفة، يف الفن واألدب والشــــــــــعر والفكر، حياول

منذ مئة عام أن خيلق لغة فنـية ممزية له تدجم ما بني االنفصال غري التمثييل

عن عالم األشــــــــــياء وحبث يف أســــــــــس التشــــــــــكيل اإلبداعــــــــــي عىل واسئطه

المختلفة.24 لم يكن مثة أفضل من هذا التوجه لطالب يبحث عن التعبري

عــــــــــن ذاته يف غربة ال حتمل طابع بالده، وال بالد أصلية (فلســــــــــطني) حتمل

نشــــــــــوة االنعتاق بل نقيضــــــــــه يف مأاسة متكررة. وقد تكــــــــــون مقارنة جتارب

كادمييات السوفييتية والروسية، فنانني فلســــــــــطينيني آخرين درسوا يف األ

مثل يعقوب إســــــــــماعيل وجتربته مع المــــــــــرسح التجريدي، ومازن غطاس

وجتربتــــــــــه الممزية يف المــــــــــرسح، قد تكون دليال عىل الفســــــــــحة اليت يوفرها

هــــــــــذا النوع من التوجــــــــــه لمقدرته عىل محل اإلناسين مبــــــــــا هو كذلك دون

رضورة العودة إىل عالم األشياء كما هي. ومن هنا فإن السوبرماتزيم الذي

تطور عىل يد كازمري ماليفتش كان أنسب طيف من مجلة األطياف الفنـية

المجردة الــــــــــيت كان من الممكن لزهدي اســــــــــتخدامها. فهذا التوجه، من

ــــــــــة الفنـية األوىل، واليت هي جانب، يســــــــــعى لإلماسك بالوحدات البرصي

. أما من جانبه اآلخر، عبارة عن وحدات البناء األاسســــــــــية لكل وجود فين

فالسوبرماتزيم يدعي أن الفن حقيقة قامئة بذاهتا يف عالم غري عالم األشياء

ومتثلها يف الواسئــــــــــط الفنـية العادية. هذه العنــــــــــارص الكونية هبذا التوجه

أدت مباليفتش إىل العودة إىل أبسط األشكال، مربع ودائرة وصليب، مع

أول األلوان أو عدمها، األسود ومن ثم األبيض عىل أبيض.25

هــــــــــذه اللغة تطورت عىل يد زهدي قادري بطريقة الفتة للنظر من حيث

انظر الهامش 21 آنفا. 24للتوسع، انظر كتابه التايل: 25

Malevich, K., 2003. The Non-objec ve World: The manifesto of Suprema sm. N.Y.: Dover.

إنه قام باســــــــــتنفاد التناقض األاسيس غري المحلول بني كون اللوحة حالة

تشكيل مادية شيئية وبني نفي المادة اليشء والعمل من خالل األشكال

الهندســــــــــية األولية. فما قام به زهدي هو إىل حد بعيد العودة إىل مادية

شيئية اللوحة من خالل الشكل الهنديس خاصهتا، وبتحويرات متعددة

مهنــــــــــا عملية العمل يف القماش ذاته مثل متزيقه بســــــــــكني ومبفك، وأحيانا

بإضافة مواد عىل القماشــــــــــة، مثل اخلشــــــــــب وما إىل ذلك.26 وأما التحوير

اآلخر، فهو باســــــــــتخدام ألوان غري األســــــــــود واألبيض والــــــــــيت تثري حالة من

الرتكيب مبســــــــــتوى نســــــــــيج اللوحة المادي-البرصي كما ســــــــــيميائية هذا

النســــــــــيج العامة. والسؤال هو: كيف نفهم هذا التطوير من خالل حموري

فلسطنة الذاكرة والهجرة -أي السعي اللحوح والمراوح يف طريق العودة،

كما تراكم ثقل مادة جسد المأاسة مع تكرار حدث المأاسة جسدا؟

إن اللوحــــــــــة مــــــــــن جمموعة جروح ليــــــــــايل غزة (3 قطــــــــــع) (2009، جبس

يليــــــــــك ومفك عىل قمــــــــــاش، 70×70 كل قطعة)، مركبة من ثالث وأكر

قطع ذات شــــــــــكل مربع، األوىل بياضها عاجــــــــــي، والثانية بياضها ثلجي،

والثالثــــــــــة ســــــــــوادها غري متجانــــــــــس حيث يربز نوع مــــــــــن التهبيت يف بعض

أجزاهئــــــــــا. إىل حد بعيد، هذه اللوحة تعطي القاعدة األاسس للوحدات

قارن جتربة زهدي قادري مع جتربة ي لوتشــــــــــيو فونتانا والذي يســــــــــتخدم ذات التقنية كعامل 26تشكييل يف اللوحة اليت تصبح عندئذ منحوتة، انظر:

Whi ield, S., 2000. Lucio Fontana. Berkeley: University of California Press.

من جمموعة جروح ليايل غزة (3 قطع)،

2009، جبس وأكريليك ومفك عىل

قماش، 70×70.

Page 19: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

3637

ــــــــــة األوىل اليت من خاللها جيري تركيب العمل الفين عامة. فبعمله البرصي

هذا كأن زهدي قام بتصفري اللغة، عرب تناصه مع عميل ماليفتش األهم،

المربع األســــــــــود (1915، زيت عىل قماش) وتركيب ســــــــــوبرماتزيمي:

أبيــــــــــض عىل أبيض (1918، زيت عىل قماش)، ليبدأ من ثم من جديد

عن طريق رضب القماشــــــــــة مبفك وهكذا خترميها، وكأنه يقول إنه لم تعد

هذه البداية تنفع كبداية. هنا تبدأ طريق العودة، كما الســــــــــعي اللحوح

والمراوح فهيا، فالطريق إىل التشكيل الفين ال بد لها أن متر مرارا وتكرارا

باألشــــــــــكال الهندسية األولية، يف بياضها األبيض عىل حتويراته المتعددة.

يــــــــــق العودة إىل الذات /فلســــــــــطني؛ جيــــــــــب أن تبدأ من وهكــــــــــذا هي طر

تصفريها وإعادة موضعهتا لتبدأ ولكهنا ســــــــــتبقى حتتوي ذات المقومات

من طريق عائد من نقطة بداية متخيلة جرى إقصاء الذات عهنا.

أما اللوحات الثالث األخرى، فهي تطوير لغوي حاد، يقطع مع جســــــــــد

المادة األوىل بعدة أشــــــــــكال خمتلفة، ولكن بســــــــــمة واحدة مشــــــــــرتكة وهي

أهنا «أثقل» مادة ونســــــــــيجا وسيميائية من العنارص األاسسية يف اللوحة

يليــــــــــك عــــــــــىل قماش، األوىل. فاللوحــــــــــة حممــــــــــود درويــــــــــش، (2008، أكر

ا بلوهنا األصفر النقي القاتم والذي ينشبك 75×60) الصفراء خترج نوعي

ا باألبيض ليخضعه له، عن طريق حضنه له يف المرة األوىل، حيث عالئقي

المربع اخلارجــــــــــي هو أصفر، ويليه مربع أبيض حنيف، ليغمر من ثم ببحر

األصفــــــــــر الكبري والــــــــــذي خيضعه هنا للمــــــــــرة الثانية. أما اخلــــــــــروج القاطع،

بالمعىن احلريف وذلك المجازي، فهو متزيق وســــــــــط اللوحة بســــــــــكني حاد

بطول حوايل عرشة سنتمرتات تبدو كندبة يف جسد القماشة واللوحة. يف

هاتني اخلطوتني خروج يقطع مع اللغة الاسبقة ويؤسس لتشكيل جديد

هو نتيجة تركيم يف جســــــــــد مادة اللوحة ذاته. ونرى ذات المنطق بتحوير

خمتلف يوســــــــــع نطاق منطق الثقل اجلســــــــــدي المرتاكم يف مادة اللوحة يف

من جمموعة فريتيكال (2008، زيت وخشب عىل قماش، 150×90)،

حيث إضافة األزرق إىل جانب األسود لونا، وإضافة اخلشبة بلون أسود

عىل قطعة القماش، كما رســــــــــم الزهرة البيضاء شــــــــــبه المخفاة علهيا. أما

يف اللوحة مــــــــــن جمموعة جروح (2008، أكريليك وســــــــــكني عىل قماش،

120×100)، فهنالــــــــــك التمزيق المتعدد المتوازي والمنظم لقماشــــــــــة

العمل، كما هنا إضافة بقعة «مادة» ســــــــــوداء عىل األسود ليصبح أثقل

مادة سوادا. وهنا يربز المحور الثاين لفلسطنة للذاكرة والهجرة عرب تراكم

ثقل مادة جســــــــــد المأاسة /اللوحة مع تكرار حدث المأاسة /التشكيل

جسدا /مواد اللوحة.

مما ال شــــــــــك فيه أن هذا يربز عملية تذويــــــــــت وتطوير لغوي فين من قبل

زهدي قادري لما اكتسبه من الفن المجرد، عامة، والرويس، خاصة. إال

أن الرتكيبــــــــــة الناجتة من هذه المداخالت، كما من المدونة الفنـية العامة

لزهدي، هي حركة تشكيل فريدة من حيث استخدامها للحركة الناجتة

مــــــــــن «عدم التوازن» المادي-البرصي كعامل تشــــــــــكيل أاسيس يف هذه

اللوحات. فــــــــــإن كان المودرنزيم المجرد، والــــــــــرويس منه حتديدا، يبحث

يف االنفصال عن المادة لكوهنا حالة مســــــــــتمرة مــــــــــن عدم التوازن المخل

حبركة االنعتــــــــــاق من الطبيعة، فإن المداخلــــــــــة اجلمالية األاسس لزهدي

هي بتشــــــــــكيل عدم التوازن كمقولة مجالية ترد إىل ما هو إناسين عام، أو

-إن شئت- كوين، يف أن احلدث هو تارخيي وليس طبيعة هندسية. هذه

ية يف المأاسة الفلسطينية المهاجرة أبدا يف ذاكرة لم هي النقطة االرتكاز

تطأها منذ النكبة إال رجل اإلناسن القبيح.

حممود درويش، 2008، أكريليك وسكني

عىل قماش، 75×60.

من جمموعة فريتيكال، 2008، زيت

وخشب عىل قماش، 150×90.

من جمموعة جروح، 2008، أكريليك

وسكني عىل قماش، 120×100.

Page 20: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

3839

.6

تبدو، أحيانا، ظاهرة الفنان «العبقري» «الموهوب» من الوالدة بشكل

طبيعي، والذي لم يدخل أي مؤسســــــــــة أكادميية، أو أخرى تبعا للحقبة

والسياق التارخيي لمولده، رومانسية وغري خاضعة للتحليل النقدي. لكن

السلســــــــــلة الطويلة عرب التارخي، والعريضة الممتدة عىل جممل المجاالت

اإلبداعية واحلرفية، تشــــــــــري إىل أمناط، أو عمليات عالئقية، تقف بأاسس

إنتاج، وقــــــــــد يكون إعادة إنتاج، هذه الظاهرة الالفتة للنظر. ويف العديد

مــــــــــن هذه احلاالت، نرى أن اكتاشف الشــــــــــخص المبدع هو األاسس يف

كل هــــــــــذه العملية اإلبداعية االجتماعية، إذ باإلضافة إىل كون المبدع/ة

حامــــــــــال لقدرات عرب ســــــــــياقية، هو حباجة إىل أن يزتامن ذلك مع ســــــــــياق

اجتماعــــــــــي تارخيي مع حاجة بنيوية للتعبــــــــــري الفطري، و/أو المتخيل بأنه

كذلك. يف كل نظام اجتماعي تارخيي جند أن نظام تعبري إبداعي يشــــــــــتق

من بنيته المحددة، وذلك كجزء منه يتدفق حامال، بأشــــــــــكال وحتويرات

خمتلفة، ذات البنية االجتماعية التارخيية اليت أفرزته. وقد يطرح الســــــــــؤال

حول ممزيات البنية االجتماعية التارخيية اليت حتتم اشتقاق ظاهرة التعبري

ــــــــــا» و/أو «العبقري الفطري»، فــــــــــرنى أنه يف احلاالت ي «الموهــــــــــوب فطر

، كجزء كدمة احلقل الفين ــــــــــة اليت تتمزي بعملية حثيثة ومكثفة من أ التارخيي

ل بنيوي يف حقل التناقضات العام، يظهر «الموهوب الفطري» من حتو

كحالــــــــــة من عهد اسبق مثايل أفضــــــــــل، يف المقارنة فإن ذات «الموهوب

الفطــــــــــري» يظهر كقيمة نقدية تشــــــــــري إىل طبقة حرة من الوجود اإلناسين

الطبيعــــــــــي خــــــــــارج المجتمع /التارخي الــــــــــذي يقع حتت وطأة المؤسســــــــــة

والــــــــــذي جيــــــــــب انتاشله مهنا. ومــــــــــن الممكن القــــــــــول إنه مــــــــــن وجهة نظر

فوكوية، التشكيل اخلطايب «موهوب فطري» هي يف لب عملية تشكيل

اخلطايب المــــــــــدريس حيث حتدد مالحم هذا األخري عرب صناعة «الفطري»

مقابل «احلضاري» المتقدم. ولعل مثال جان ميشيل باسكيا هو األبرز

يف العقود األخرية عىل جممل هــــــــــذه العمليات يف احلقل الفين األمريكي،

ا حتديدا، والغريب، عامة.27 هبذا لم يكن جان ميشــــــــــيل باســــــــــكيا حدثا فنـي

ــــــــــة كامنة دوما يف يــــــــــدا، بــــــــــل هو حلقة من ظاهــــــــــرة إناسنية تارخيية عام فر

باطــــــــــن االجتماعي، تزبغ أحيانا لتســــــــــطع ولتعود من ثم لرتقد عىل بيضها

إىل حني مؤات آخر.28 ويثار الســــــــــؤال يف ســــــــــياقنا حول الماسهمة الفنـية

واجلمالية، ومن ثم االجتماعية األعم، لهذه الظاهرة بالمســــــــــتوى الكوين،

وما تفاصيل إمكانية وقوعها وتفاعالهتا يف السياق الفلسطيين خبصوص

الذاكرة والهتجري والهجرة، حتديدا.

ا» يف ســــــــــياق احلقل ي ل ظاهــــــــــرة الفنان «الموهوب فطر حممــــــــــد فضل ميث

الفين الفلســــــــــطيين، ويبدو أحيانا أنه حنت لغته الفنـية من داخل موهبته

دون أن يكــــــــــون لهــــــــــا صلة بأي ســــــــــياق تارخيي اجتماعي مــــــــــا، فين أو آخر.

ية ال ميكن نســــــــــهبا إىل ا من أعماق موهبة فطر فهــــــــــو يبدو وكأنــــــــــه يتكلم فن

ــــــــــة تركيــــــــــم /تركيب تارخيية تفحــــــــــص العالقة بني التدويــــــــــن وتقنياته عملي

ومنتجاته. وبغيــــــــــة اخلروج من هذه الدائرة الرومانســــــــــية، أسقوم بعرض

ممزيات أاسسية مشرتكة بينه وبني باسكيا، حتديدا لوحاته، ألشكل نقطة

ارتــــــــــكاز حتليلية نقدية لمرشوع فضــــــــــل اجلمايل االجتماعــــــــــي. يف المعتاد،

ف باســــــــــكيا عىل أنه جزء مــــــــــن تيار التعبرييني اجلدد، حيث يســــــــــعى يصن

قنا إىل أعمال أاسمة ســــــــــعيد، إىل التعبري هــــــــــؤالء، كما رأينا آنفا عند تطر

عن عواطفهم داخــــــــــل فضاء اللوحة وعادة يســــــــــتخدمون الفضاء اللوين

كعامل تركيبـي، وال يســــــــــتثمرون بالشــــــــــكل أو العالقات الشكالنية بقدر

مــــــــــا يردوهنا إىل عنارصهــــــــــا األولية «البدائية» كســــــــــيمياء تعبري أولية تقوم

بوظيفــــــــــة تعريفية عىل األغلب. وينطبق هــــــــــذا للوهلة األوىل عىل أعمال

ــــــــــة وبطريقة تبــــــــــدو أولية، مثل باســــــــــكيا، حيث يســــــــــتخدم أشــــــــــكاال بدائي

هنالــــــــــك ظاهرة ماشهبــــــــــة معارصة تتمثل يف الفنان الســــــــــوري ســــــــــهبان آدم، إال أن المقارنة مع 27باســــــــــكيا هي ألنه التوثيق والدراسة حول أعماله أشمل، من جانب، وألن أكرث من عقدين مرا منذ وفاته مما ميكننا من النظر بشكل تقييمي عىل الظاهرة ككل، من جانب آخر. لالطالع عىل

سهبان آدم وأعماله، انظر:h p//:sabhanadam.com

لالطالع عىل قصة جان ميشيل باسكيا وأعماله، يف اإلمكان مراجعة التايل: 28Hoban, P., 1998. Basquiat: A quick killing in art. N.Y.: Penguin.

Page 21: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

4041

اجلمجمة أو خطوط تدل عىل شــــــــــكل آدمي ومــــــــــا إىل ذلك، إال أننا حباجة

إىل إعــــــــــادة النظر يف قضية عدم االســــــــــتثمار يف الشــــــــــكل هذه، وذلك أننا

-عىل مــــــــــا يبدو- أمام نوع خمتلف من التشــــــــــكيل. فالبدائية يف األشــــــــــكال

ا عن ــــــــــا، ختتلف نوعي لدى باســــــــــكيا، ولدى حممد فضل كما ســــــــــرنى الحق

بدائية التعبرييني اجلدد الذين خترجوا من أكادمييات الفنون. واالختالف

لة، كادمييني حلد أدىن من اخلطوط المشك األاسيس يكمن يف استخدام األ

واالعتماد أكرث عىل الكتل اللونية، بينما جند أعمال جان ميشــــــــــيل باسكيا

تزخر باخلطوط والكلمات واألشكال، وهذه كلها ختلق ازدحاما لألشكال

ا» وأحيانا «مراهقا» ويف أحيان يف فضاء اللوحة مثــــــــــرية انطباعا «طفولي

ا الفتا للنظر. ولعل هــــــــــذه هي مزية الموهوب أخــــــــــرى «بلوغا» شــــــــــكالني

الفطري الذي أبدا ال يســــــــــتقر عىل «صيغة» مدرسية، بل يرد التشكيل

إىل أولياتــــــــــه وهبــــــــــذا يدعو إىل العودة إىل طبيعة ما قبــــــــــل اجتماعية، وهنا

بالذات وظيفته اجلمالية االجتماعية: إعادة إنتاج الطبيعي األويل ليجري

ا حبسب البنية الاسئدة. تداوله اجتماعي

يف هذا المعرض ثالث لوحات لمحمد فضل من جمموعته عسل، هي:

عسل 1، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل قماش، 140×145. -1

عسل 2، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل قماش، 140×145. -2

عسل 3، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل قماش، 140×145. -3

اللوحــــــــــة األوىل عســــــــــل 1 (2011) تبــــــــــدأ من إطار بعرض 5 ســــــــــنتمرتات

ــــــــــأ بــــــــــورد أزرق وآخر أمحر وثالهثما بنفســــــــــجي ليعــــــــــود من ثم ــــــــــا، معب يب تقر

ــــــــــه. يف داخل الــــــــــورد األمحر، حيث يشــــــــــكل هــــــــــذا الرتتيب منــــــــــط اإلطار كل

اإلطــــــــــار، هنالك خلفية لونية زهــــــــــري قاتم حد العناب األمحر، رســــــــــمت

علهيا أشــــــــــكال ورد خبط زهري زاه. فوق هذه اخللفية شــــــــــكالن متكرران،

األول آلدمي والثاين لبندقية أتوماتيكية تشــــــــــبه الكالشينكوف السوفيايت

الصنــــــــــع. الرتتيب الداخيل للتكرار هو عبارة عن وحدة من شــــــــــكل آدمي

جبانبه وبشــــــــــكل مواز له البندقية موجهة إىل أســــــــــفل. تتكرر هذه الوحدة

ا هناك وحدتان بشــــــــــكل أفقي وعمودي، وذلك بتحويرات كاآليت: أفقي

ا هناك وحدتان دومنا ثم كالشــــــــــينكوف ثم وحدتان معكوستان، وعمودي

فاصل بيهنما، هكذا يوجد سطران أفقيان وأربعة أسطر عمودية يقسمها

سطر عامودي خامس من كالشــــــــــينكوفني. من بعد الماشهد العادي،

تظهر األشــــــــــكال كمتتاليات هندسية متجانسة ال حتوير علهيا، ولكن كلما

اقرتبت بعــــــــــدا وتأمال رأيت أن الشــــــــــكلني ميران بتحويــــــــــرات عدة. فمثال

الشــــــــــكل اآلدمي هو عبارة عن شــــــــــخصية مهرج تتبــــــــــدل مالحم وجهه كما

مالبســــــــــه واأللوان المختلفة حبسب السطر األفقي والعمودي، وكذلك

شكل البندقية األتوماتيكية وتركيهبا اللوين. هبذا، إن االندماج مع اللوحة

لها، وإن كان يبدو أن هذا يتحدد مبــــــــــدى القرب /البعد مهنا ودرجة تأم

القانون هو عام لكل لوحة تشكيلية، إال أنه يصبح هنا العامل األاسيس

فهيا. هــــــــــذا البعد الرتكيبـي البــــــــــرصي يصبح مربكا أكــــــــــرث عند ربطه حبدة

Pale) العمل ميتد من e) الرتكيــــــــــب اللوين لمجمل العمــــــــــل. فباليــــــــــت

األزرق فاألمحــــــــــر فاألصفر عىل جممل األلــــــــــوان الممكنة من بني ثالثهتا، من

ــــــــــايب وغريهما. وهذه األلوان ذات طيــــــــــف حاد حبيث إهنا بنفســــــــــجي وعن

يبا ال نرى إال دراما األلوان ا، فنحــــــــــن تقر تبــــــــــدو كنوع من حالة مكثفة جد

ر وظيفة التشــــــــــكيل نفســــــــــه. إن مع التكرار الشــــــــــكيل والذي يبدو أنه يصف

هذه العالقة، وهي اليت ســــــــــرنى أهنا تتكرر يف األعمال الثالثة المعروضة

هنا، ترد إىل التعبرييني اجلدد وإن اختلفت معاجلة الشكل هنا عن التيار

ــــــــــة العاطفية هنا ترد إىل تناقض أاسيس الرئيــــــــــيس لدهيم. فالدراما اللوني

يتحول فهيا لون األمحر الدم إىل زهري والبندقية إىل بنفســــــــــجية، بشــــــــــكل

مواز لتحول اإلناسن إىل مهرج /هبلوان. إن المعاجلة التشكيلية هنا تنقل

ــــــــــة إىل وزن نوعي يبدو ”أخف“، ولكن بنفس الدرامــــــــــا االجتماعية التارخيي

ــــــــــة لونية حد الهســــــــــترييا الكئيبة. هذا التناقض الوقــــــــــت يثري حدة عصابي

ل اللبنة ه إىل كون العالقة بني اإلناسن ودمه وبندقيته ال تزال تشــــــــــك مرد

عسل 1، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل

قماش، 140×145.

Page 22: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

4243

ــــــــــة اليت ال حتتمل األاسس يف الذاكــــــــــرة اجلمعية الفلســــــــــطينية، ولكن اخلف

هي يف تكرار تدفق دم اإلناسن الفلســــــــــطيين عرب نـزع سالحه عنه وذلك

لقتله به. مما ال شــــــــــك فيه أن الدراما التشــــــــــكيلية العاطفية هنا متســــــــــك

حلظة ”متأخرة“ يف السعي اللحوح والمراوح يف طريق العودة، حيث يثار

السؤال: كيف يعود /يعيد الفلسطيين دمه وبندقيته؟

ج بشــــــــــىت ــــــــــا اللوحــــــــــة الثانية، عســــــــــل 2 (2011)، فهي تشــــــــــكيل مدج أم

أنواع األســــــــــلحة، من مســــــــــداست ودبابات وصــــــــــوارخي وطائرات، وذلك

ــــــــــني متفاوتني حجما وطــــــــــوال، ولذلك يبدوان باإلضافة إىل شــــــــــكلني آدمي

كضابــــــــــط وجندي. تبدأ اللوحة من إطــــــــــار خارجي بعرض مقداره قرابة 5

ســــــــــنتمرتات، وهو عبارة عن شكل قذيفة مدفعية أو صاروخ لونه أصفر

فاه، يتكرر مرصوفا يف امتداد اإلطار كله؛ ويربز شــــــــــكل نصل سكني متكرر

عىل امتداد اإلطار أيضا، وهو خيرج من اإلطار باجتاه عمق اللوحة. أرضية

اللوحــــــــــة هي صفراء عســــــــــلية صافية علهيا رســــــــــمت دبابة صفراء طيفها

يبا بذات أفهى من أصفر اخللفية، ويف طبقة ثالثة من اخللفية رســــــــــم، تقر

حجم الدبابة، مســــــــــدس بلــــــــــون بين قاتم، بينما جرى تشــــــــــكيل الدبابات

ية، المسداست ال تكرر ذات االجتاه والرتتيب، كأرتال يف مســــــــــرية عسكر

وإمنا أحيانا يبدو وكأهنا علقت عىل الدبابات. يف أسفل مقدمة اللوحة،

هنالــــــــــك شــــــــــكل يبدو أنه طريق أو ممــــــــــر لونه زهري قان حــــــــــد األمحر، وهو

ــــــــــة، ومييش عليه شــــــــــكالن آدميان ميلء بأشــــــــــكال تشــــــــــبه الطائرات احلربي

هبيئة عســــــــــكر، األول حجمه أكرب من الثاين. ويبدو أن األول -اســــــــــتنادا إىل

حجمــــــــــه واشرات رتبه اليت عــــــــــىل كتفه- هو ضابط، وهو يف وضعية ميش

عســــــــــكري، لون مالبســــــــــه زهري قان حد األمحر مثــــــــــل الطريق اليت مييش

علهيا، وبســــــــــطاره العسكري أســــــــــود قاتم، عىل كل جزء من مالبسه رسم

نوع واحد من األســــــــــلحة، فالطاقية والقميص والبنطلون علهيا صوارخي،

الوجه عبارة عن طائرات حربية، وأما البســــــــــطار فرســــــــــمت عليه خناجر.

الشــــــــــكل اآلدمي العســــــــــكري الثاين الذي مييش أمام هذا الضابط، جرى

تشــــــــــكيله حبســــــــــب األول بالضبط، باســــــــــتثناء كونه أصغر وطاقيته طارت

ــــــــــه مائل إىل الوراء يف الهواء وجســــــــــده مييــــــــــل إىل اخللف بزاوية تدل عىل أن

ليسقط. إن العالقة بني الضابط واجلندي تشري، وإن عىل حنو غري قاطع،

إىل أهنم يف معركة يســــــــــقط الثــــــــــاين مدافعا عن األول. ينبت العســــــــــكر يف

طريق الدم وميشون علهيا، بعضهم يقتل فيعود إلهيا ليكرهسا من خالل

جة الدم. إن هذه اللوحة ليست مبنية عىل السخرية من الثقافة المدج

ا أن ال يشء جبســــــــــد باألســــــــــلحة والعســــــــــكر واحلرب فقط، إهنا حتكي برصي

النظــــــــــام إال العنف الممهنــــــــــج كما يدل عىل ذلك تدجيج جســــــــــد اللوحة

وجســــــــــد العسكر بالسالح. وهنا يف اللوحة ال مكان بني الدبابة والدبابة،

بني المسدس والمسدس، ويف النظام االستعماري ال مكان إال للسالح.

ال مكان هنالك لطريق آخر حيمل الســــــــــعي اللحــــــــــوح والمراوح يف طريق

العودة، ال مكان هنا جلســــــــــد الضحية الذي يزداد ثقال، بل هنالك فقط

أسلحة تزداد حجما وفتكا.

أما اللوحة الثالثة، عســــــــــل 3 (2011)، فهي تبدو وكأهنا حالة اليوطوبيا

العســــــــــلية اليت اســــــــــتطاعت للوهلــــــــــة األوىل أن حتل تناقضــــــــــات اللوحتني

أ يبا، وهو معب الاسبقتني. تبــــــــــدأ اللوحة بإطار بعرض 5 ســــــــــنتمرتات تقر

بشكل سمكة متجانس، لكن لونه يتبدل ما بني أصفر مع خطوط وأشكال

برتقالية متنوعة، وأبيض مع خطوط وأشــــــــــكال بنفســــــــــجية، عدا سمكتني

ــــــــــا (أي كل يف اجلانــــــــــب العلوي مــــــــــن اليمني حيث جــــــــــرى تلويهنما نصفي

نصف حســــــــــب منط خمتلف). تتمزي أرضية اللوحة خبطوط صفراء عسلية

ذات ســــــــــمك متنوع، إىل جانب بقع وكتل برتقالية. يف الطبقة األوىل عىل

األرضية، هنالك عدة أشــــــــــكال، جزء مهنا متثييل ألســــــــــماك وورود، وجزء

آخر ألشــــــــــكال غري-متثيلية، وكل هذه األشكال تتمايز بصيغ لونية خمتلفة.

فالســــــــــمك -مثال- تشكل بثالثة أحجام خمتلفة، ولكل حجم لون خمتلف.

ــــــــــا الطبقة الثانية، فهي األشــــــــــكال داخل األشــــــــــكال مــــــــــن الطبقة األوىل أم

وهي ســــــــــمك و/أو ورد، وتأيت كذلك بعدة صيغ لونية متمايزة. هنالك

عسل 2، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل

قماش، 140×145.

عسل 3، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل

قماش، 140×145.

Page 23: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

4445

ثالثــــــــــة أمناط من الــــــــــورد، أبيض وأصفر وبنفســــــــــجي، وكذلك ثالثة أمناط

من الســــــــــمك، أبيض وأصفر وأصفر مع خطوط بنفســــــــــجية. من الالفت

للنظر، وكما يف اللوحات األخرى، أن احلركة عىل حمور البعد /القرب من

اللوحــــــــــة ودرجة التأمل ومدته تكشــــــــــف أن ما بدا عــــــــــىل أنه منط متكرر به

حتوير ما غين بتفاصيله الدقيقة. إن هذا النســــــــــيج العام للوحة يستحرض

بعض أعمال غوستاف كليمت، اليت تبدو كأهنا حالة من احللم اليوطويب

ــــــــــة. ففي قراءة أوىل، مــــــــــن الممكن ربط العالقة ما يف انســــــــــيابيهتا الداخلي

Pale) األلوان، وحياة العســــــــــل، e) بني عســــــــــل احلياة، المتمثل بباليت

المتمثلة بالورد، عن طريق حركة الســــــــــمك المناسبة يف الوســــــــــيط شبه

المايئ، واجلامعة لمجمل نسيج اللوحة. إال أن القراءة الثانية قد تأيت خبرب

آخر، ال ينفي األول، بل ياسئله حول إمكانيته كحدث طوباوي؛ فأهم ما

يف السمك هو أنه موجود يف البحر وأنه ال ميلك القدرة عىل النطق. وهنا

فإن اإلطار الســــــــــمكي يشري إىل أن احللم ال ميكن له أن حيدث عىل األرض،

بــــــــــل يف مكان ما ليس لإلنــــــــــاسن فيه موطئ، وهبذا ففــــــــــي احلقيقة احللم

أخرس، أو -إن شئت التعبري عىل حنو بالغي آخر-: العسل مر. وهذا مما

يعيدنا إىل السعي اللحوح لكن المراوح يف طريق العودة، حيث تربز هنا

ــــــــــة المراوحة يف مقابل حتقيق العودة عــــــــــرب الطريق أكرث من اجلوانب قضي

األخرى لطريق العودة. هل ميكن أن تتحقق العودة /احللم العسيل؟

مما ال شــــــــــك فيه أن حممد فضل بأعماله هــــــــــذه، كما باسئر لوحاته، أدخل

هــــــــــذا اجلانب من الفن الفلســــــــــطيين إىل أنواع وأشــــــــــكال لونية وتركيبية غري

بة. ولعل الدرس األهم يف هذا الســــــــــياق نة يف ثنايــــــــــاه المغي مألوفــــــــــة ومبط

كادميي ليس بداية وال هناية األناسق هو المقولة األاسس أن النســــــــــق األ

اإلبداعية المختلفة، فهو إمكانية تنضاف إىل إمكانيات أخرى. والســــــــــؤال

هنــــــــــا هو: كيف يوظف الفنان ومن ثم يعيد تشــــــــــكيل نســــــــــق ما يف صريورة

عملــــــــــه المتدفقــــــــــة؟ إن أســــــــــئلة الذاكــــــــــرة والهتجــــــــــري والهجــــــــــرة يف الســــــــــياق

يق وتراكم يف جسد، فتحت طبقات الفلســــــــــطيين، مبا هي ســــــــــعي يف طر

لونية تركيبية يف وجدان حممد فضل بكونه حمموال يف هذا السياق إىل أبعد

مــــــــــدى ممكن، الجئ عــــــــــىل هامش مدينة منكوبة (حيفــــــــــا). إن عدم اخنراطه

كادميية، فعــــــــــال وروحا، جاء يف زمن يســــــــــعى فيه اجلميع يف المؤسســــــــــة األ

يــــــــــب الفلســــــــــطينيني عىل احليــــــــــاة األخرى، أي االنتقال مــــــــــن المقاومة لتدر

إىل حالــــــــــة نظامية مرهتنة بدرجة ثالثة أو رابعة للنظام الرأســــــــــمايل العام. إن

ــــــــــة هي احلالة النظامية بامتياز، وهي توازي حالة الدولة يف المجال كدم األ

ا من غــــــــــري إنتاج معريف فين الســــــــــيايس، إال أننا نعيش يف فلســــــــــطني أكادميي

كما نعيش شبه دولة دون أدىن ذرة من السيادة. من هنا، فاحللم أخرس،

والعسل مر. وقد تكون حباجة إىل ”موهوب فطري“ ليقول لك /لنا ذلك.

.7

منذ أواسط ستينيات القرن العرشين حىت يومنا هذا، تتالت بالتقريب

كادمييا أربعــــــــــة أجيال من الفلســــــــــطينيني/ان الذين درســــــــــوا الفــــــــــن يف األ

الفنـية اإلرسائيلية، ومارســــــــــوه وعملوا عىل حتديد المالحم البرصية لثقافة

الفلسطينيني يف المناطق المحتلة عام 1948، حتديدا، ومن ثم اسهموا

يف حتديد الثقافة البرصية للمجتمع الفلســــــــــطيين، عامة. ولعله هنا تكمن

إحدى التنويعات المثرية يف قصة جسد المأاسة الفلسطينية؛ حيث إن

لغة التعبري المكتســــــــــبة هي لغة اجلاين، والمتحدث /الفنان هو الضحية

الذي ال ميلك ســــــــــوى لغة اجلاين للتعبــــــــــري عن ذات ضحية اللغة ومالكها

األول. ومن هنا، يبدو أنه من الممكن تتبع اللغات الفنـية الفلســــــــــطينية

ــــــــــة اإلرسائيلية، إن وجدت هذه المختلفــــــــــة من خالل تتبع اللغات الفنـي

عىل حنو مســــــــــتقل عن العالم الغريب. إال أن هــــــــــذا المنحى خيزتل التجربة

الفنـية الفلســــــــــطينية كمحاكاة أولية للتجربــــــــــة اإلرسائيلية، ومن ثم يرههنا

بإعادة إنتاج عالقات القوى احلاملة للنظام االســــــــــتعماري يف فلســــــــــطني.

ية إن مأسلــــــــــة العالقات المركبة بني اجلاين والضحية، ومن ثم اســــــــــتمرار

ترويــــــــــض الضحية من خالل إكاسهبا لغة النظــــــــــام، يف المجال الفين كما

Page 24: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

4647

يف جماالت أخــــــــــرى، حتمل من التناقضات ما يؤهلهــــــــــا لتحويل العالقات

القامئة باجتاه انعتــــــــــايق. والالفت للنظر لدى األغلبية المبدعة من هؤالء

ية الفنانني والفنانات هو ليس احلمولة االنعتاقية، بل هو احلالة االنشطار

مــــــــــا بني المجــــــــــال الفين الــــــــــذي يعملون بــــــــــه وما ينتجونه من تشــــــــــكيالت

انعتاقيــــــــــة، وذلك مقارنة مع االنغماس العميق حد الغرق يف مســــــــــتنقع

ية اإلرسائيلية، ليبدو أحيانا كنوع من احلتمية اليت المؤسسة االســــــــــتعمار

ال بــــــــــد مهنا بالرغم من أنه نتــــــــــاج خيار تارخيي حبــــــــــت.29 إن اللغة البرصية

ــــــــــة اليت تأسســــــــــت من هــــــــــذه احلالة لم تدرس بعمــــــــــق، بل بقيت يف الفنـي

هامش اجلســــــــــد المعريف كطور ثالث، بعد فعل االحتالل فالرتويض عىل

حياة الضحية، فصيانة الضحية من خالل موقع بنيوي حمدد هو هامش

اجلســــــــــد المؤســــــــــاسيت.30 أما الفنانون/ات، أو جزء مهنم/ن عىل األقل،

فلهــــــــــم مقولة أخرى أسحاول تبيــــــــــان تفاصيلها من خالل عمل أنيســــــــــة

أشقر الماشرك يف هذا المعرض.

جيمع عمل أنيســــــــــة أشــــــــــقر، احفظ التــــــــــارخي: بعد الظهــــــــــر (2011، أداء

ل كفيديو، ‘44: ”20)، العديد من اخليوط اليت تنســــــــــج األعمال مســــــــــج

الفنـية اليت خترج من المتحف لتحاول نفيه عرب إعادة تعريف العالقة بني

المؤسســــــــــة والاشرع /احلياة المعاشة. فأنيســــــــــة خترج من متحف حيفا،

كتبت عىل وجهها اســــــــــم العمل، ورشت مســــــــــحوقني بلون أصفر وأزرق

عىل وجهها، تلبس عباءة ســــــــــوداء وحتمل باقة من أغصان القطن وورده

حول عالقات االستعمار بالمستوى الثقايف، ومالحم المحاكاة كعالقة ضابطة بني الفلسطينيني 29يف المناطق المحتلة عام 1948 وبني النظام الصهيوين، انظر:

ية الفقدان: مقاربة حول احلضور والغياب. مدى آخر، 1، ناشــــــــــف، إسماعيل، 2005. معمار .36-9

خيصــــــــــص كل مــــــــــن كمال بالطة وجانيــــــــــت أنقوري فصال مــــــــــن كتابه للفنانني الفلســــــــــطينيني يف 30المناطــــــــــق المحتلة عام 1948. وحيــــــــــاول كل مهنما التوثيق لهذه التجربــــــــــة من موقعه، فبينما يراهــــــــــم كمال بالطــــــــــة بقايا جمتمع اندثر، تراهم أنقوري نوعا من ”جنــــــــــاح“ النظام يف احلفاظ عىل تعددية ما داخل إطاره، وقد يكون حتليلها ألســــــــــد عــــــــــزي وأعماله هو المثال األبرز عىل ذلك.

انظر:بالطة، كمال، 2000. اســــــــــتحضار المكان: دراسة يف الفن التشكييل الفلسطيين المعارص.

د. م.: المنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم، ص 206-180 .Ankori, G., 2006. Pales nian Art. London: Reak ons Books, pp. 176- 216.

لفت باششــــــــــة بيضاء، قائدة جمموعة من عرشة مؤدين/ات، كتبوا عىل

وجوههم عبارات خمتلفة ورشوا ثالثة ماسحيق عىل وجوههم وصدورهم

ا موحدا: ي هي بلون أصفر وآخر أزرق وثالث لونه أزرق نييل، يلبســــــــــون ز

قميصــــــــــا أبيض وبنطلونا أســــــــــود، وكما أنيســــــــــة حيمــــــــــل كل مهنم باقة من

أغصان القطن وورده لفت باششــــــــــة بيضاء. تقود أنيسة المجموعة حبزم

ووضوح عرب الزقاق الدرجي «دور»، فالاشرع الرئييس لوادي النسناس

(«الواد») إىل هنايته، ثم تدخل ياسرا يف اشرع «اخلوري»، لتصعد ميينا

يف اشرع اجلبــــــــــل، إىل أن تصل الزقاق األخري المؤدي إىل الواد («حداد»)

فتتوقف يف كشك عىل ناصية الاشرع وتشرتي منه عبوة حليب، وتعود

إىل اشرع «الواد» فدرج «دور» فاسحة المتحف، حيث تقف أنيســــــــــة

والمــــــــــؤدون/ات، ينحنون للجمهور الــــــــــذي رافقهم ليدخلوا إىل المتحف

مــــــــــن جديد. وهكذا ينهتي العرض األدايئ. خالل المســــــــــرية يف الواد، كان

ــــــــــه كل حوايل 30 هنالك حدثان يتكرران بشــــــــــكل شــــــــــبه منطي، أولهما أن

إىل 40 مرتا كانت أنيســــــــــة توقف المســــــــــرية وتطلب مــــــــــن أحد المؤدين/

ا أعده مســــــــــبقا عن عالقاته حبيفــــــــــا كمدينة. أما احلدث ات أن يقــــــــــرأ نص

الثاين، فهو أن أنيســــــــــة واآلخرين كانوا يوزعون من حني إىل آخر بعضا من

أغصــــــــــان القطن عىل أهل حي وادي النســــــــــناس الفلســــــــــطينيني. يف هناية

يــــــــــق العودة، قبل الصعود إىل درج «دور» باجتاه المتحف، جلســــــــــت طر

أنيســــــــــة عىل الرصيف وبدأت تغسل وجهها ويدهيا باحلليب، وهذا كان

حدثا غري منطي يف المسرية ككل.

يف هذا العمل، تستحرض أنيسة ثالثة أدوار ناسئية: بنت البلد /الغريبة؛

الزعيمة؛ احلكيمة /النبية. يف الميش يف وادي النســــــــــناس بعد اخلروج من

المتحف/المؤسســــــــــة، هي تعود لعالقة محيمة مع المكان هي -مبفردات

الثقافة الفلســــــــــطينية- عالقة بنت البلد ببلدها وأهلــــــــــه، والزعيمة تتأىت

ية القطن يف توفــــــــــري الملبس والدفء. مــــــــــن قيادهتا للمجموعة ومــــــــــن رمز

أما بالنســــــــــبة للحكيمة /النبية، فهذا يأيت من القطن والكتابة عىل الوجه

احفظ التارخي: بعد الظهر، 2011،

فيديو المركزي، ‘44: ”20، الفيديو عىل

اجلانبني، 11 دقيقة.

Page 25: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

4849

وألــــــــــوان الماسحيق، حيــــــــــث احلكيمة الطبيبة يأيت مــــــــــن أن يداوي القطن

اجلروح. ويف اإلسالم، األنبياء سيماهم يف وجوههم، والعالقة بني الكتابة

والنبوة غنية عن التعريف. أما يف اإلرث األيقوين البزينطي، فقد تأســــــــــس

أن صاحب النبوة عيىس يكون ذا طابع لوين ذهيب، بينما أمه مريم ترتدي

العباءة الزرقاء. إن هذه األدوار الثالثة جمتمعة يف السعي يف الطريق تقود

إىل مقولة نبوءة حول أن العودة ال تتم إال عن طريق بنت البلد اليت تقود

، مما ال شــــــــــك اجلمع لتحقق نبوءة العودة. وهذا الشــــــــــكل من األداء الفين

فيه، نتج عن أن تراكم ثقل مادة جسد المأاسة مع تكرار حدث المأاسة

جســــــــــدا أدى إىل اخلروج من المؤسســــــــــة /المتحف األبيض االستعماري،

ليحمل العمل الفين ككل إىل اشرع المدينة الفلسطينية أو ما تبقى مهنا.

أما مبدأ فلسطنة الذاكرة والهتجري والهجرة عرب السعي اللحوح والمراوح

يــــــــــق العودة، فهو أخذ منحى حمــــــــــددا يف انتقاله إىل فن األداء حيث يف طر

ينمــــــــــو العمل يف ومن خــــــــــالل حتقيقه كأداء، ومن هنــــــــــا أهمـيته، حيث إن

المقولة هنا أنه ال بد من األداء للعودة، أو حىت لبداية طريقها.

العمــــــــــل يبدأ باخلروج من المتحــــــــــف، وينهتي بالعودة إليه. وقد ال تتحمل

أنيســــــــــة مســــــــــؤولية أهنا بدأت مــــــــــن المؤسســــــــــة، إال أهنا كفنانــــــــــة تتحمل

مســــــــــؤولية قفل العمل بالعــــــــــودة إىل متحف النظام األبيــــــــــض بكل ما يف

الكلمــــــــــة من معىن يف ســــــــــياق حيفا ووادي النســــــــــناس، كما يف الســــــــــياق

الفلســــــــــطيين العام. فمن جانب، ال زلنا يف الســــــــــعي اللحوح والمراوح يف

طريق العودة، والرتكزي هنا عىل المراوحة؛ ومن جانب آخر، إن تشــــــــــكيال

كهــــــــــذا، أي العودة إىل المتحف األبيض، هو غري رضوري بالنســــــــــبة لبنية

العمل احفظ التارخي: بعد الظهر، يف ظاهره هو مقحم عليه، ويف باطنه

هذا خيار تارخيي للبقاء يف كنف النظام االستعماري.31

لقراءة نقدية مفصلة لهذا العمل، من الممكن مراجعة التايل: 31ناشف، إسماعيل، 2012. مأاسة نبية؛ أو، تفاصيل فشل عودة البنت الضائعة.

h p//:www.qadita.net/2012/04/20/aniseh/

.8

يبدو أن حدث عــــــــــام 1948 لم ينته بعد، وعىل وجه التحديد: يف أشن

الســــــــــكان واألرض. فما جيري اآلن يف عدة نقاط مواجهة بني الفلسطينيني

ــــــــــا مبارش ويف أخرى والنظام االســــــــــتعماري الصهيــــــــــوين هو امتداد، أحيان

بطرق خمتلفة، للتناقضات غري القابلة للحل بني النظام والفلسطينيني مبا

هم مجاعة قومية داخل احلاضنة العربية اإلسالمية. ولقد استطاع النظام

أن يكتســــــــــب رشعية ســــــــــيادية يف المناطق اليت احتلهــــــــــا عام 1948، وأن

يصنف بعض المناطق اليت ســــــــــيطر علهيا عــــــــــام 1967 كاحتالل، وذلك

كإســــــــــرتاتيجية عمل توســــــــــعية اســــــــــتيطانية تضيق مع مــــــــــرور الزمن اخلناق

عىل الفلســــــــــطينيني وحتارصهــــــــــم يف بقع خارج الزمان والمــــــــــكان احلديثني.

ولقــــــــــد نأشت عدة جتارب اجتماعية تارخيية مع النظام االســــــــــتعماري يف

ها المناطــــــــــق اليت احتلت عام 1967، قد تكون المقاومة الشــــــــــعبية أهم

من حيث الــــــــــدرس الفلســــــــــطيين. والمقاومة الممأسســــــــــة، إما كامتداد

ير الفلسطينية، وإما كمؤساست حملـية، كما لمؤســــــــــاست منظمة التحر

هو معروف اآلن أفرزت السلطة الوطنية الفلسطينية اليت تزعم أهنا متثل

ما هو فلسطيين، ولكهنا إىل اآلن لم تتجاوز موقعها البنيوي كوسيط بني

المجتمع الفلســــــــــطيين يف الضفة الغربية وســــــــــلطات االحتالل المختلفة.

، فنجد مــــــــــاسرا خمتلفا عن ذلك الســــــــــيايس بالرغم ــــــــــا يف احلقــــــــــل الفين أم

من االنشــــــــــباك بيهنما، ومن كون كلهيما يتنــــــــــاوالن ذات المادة التارخيية:

، كاسئر احلقول المأاسة الفلســــــــــطينية. ففي بداياته، كان احلقــــــــــل الفين

الثقافية المنتجة، خاضعا للحقل السيايس عىل مؤساسته المختلفة.32

ا أبدا، بل كان الطاغي حىت مما ال شــــــــــك فيه أن هذا اخلضوع لم يكن تام

بدايــــــــــة االنتفاضــــــــــة األوىل. وإىل حد ما، من الممكن القول إن قســــــــــما من

لالطــــــــــالع عىل تارخي التجربة الفنـية الفلســــــــــطينية يف المناطــــــــــق المحتلة عام 1967، يف اإلمكان 32مراجعة التايل:

شموط، إسماعيل، 1989. الفن التشكييل يف فلسطني. الكويت: د.ن. ص 86-73. بالطة، كمال، 2000. اســــــــــتحضار المكان: دراسة يف الفن التشكييل الفلسطيين المعارص.

د. م.: المنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم، ص 177-146. ناشف، إسماعيل، 2008. «صور المتشظي». عند حممود أبو ههشش ونيكوال جري (حمرران)

حتوالت: ماسبقة الفنان الاشب للعام 2006. رام الله: قطان، ص 30-24.

Page 26: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

5051

اإلنتــــــــــاج الفــــــــــين كان عبارة عن ترمجة برصية ألفكار سياســــــــــية، و/أو لصور

ل لغة فنـية ممزية منذ ية ملزتمة. وبالرغم من هذا، رأينا بداية تشك شــــــــــعر

أواســــــــــط ســــــــــبعينيات القرن العرشيــــــــــن، لدى الفنانني يف هــــــــــذا اجلزء من

كادميية الفنـية اليت ع المؤســــــــــاست األ المجتمع الفلســــــــــطيين. ولعل تنو

درس فهيــــــــــا هؤالء الفنانون/ات خلــــــــــق يف البداية حالة من البلبلة والرثاء

كادمييات يف العالــــــــــم العريب، درس يف ذات الوقــــــــــت، فباإلضافــــــــــة إىل األ

البعض يف الدول الغربية وآخرون يف دول الكتلة الرشقية، وفريق رابع يف

كادميية اإلرسائيلية. إن جتربــــــــــة الصهر وانبثاق لغة فنـية لم المؤسســــــــــة األ

يكن حمصورا عىل الفنون التشــــــــــكيلية، بل ميكننا مالحظته يف الموســــــــــيقى

واألفالم أيضا. فمنذ أواســــــــــط عقد التســــــــــعينيات، بدأنا ناشهد مالحم

حقــــــــــل فن تشــــــــــكييل آخذ بالتمايــــــــــز، وذلك عرب حمــــــــــاوالت لالنفصال عن

احلقل السيايس بالمعىن المبارش، من جانب، واإلغالق البنيوي خلطاب

ية، من ــــــــــة والرمز كدمة العمــــــــــل الفين ومعايري تقييمه المادي يعمــــــــــل عىل أ

جانــــــــــب آخر. هذه التحوالت يف احلقــــــــــل الفين أدت إىل ظهور العديد من

التجارب اجلمالية اليت تفتح ســــــــــؤالني أاسسيني: السؤال الفين اجلمايل يف

حالته االجتماعية، والســــــــــؤال االجتماعي التارخيي يف حالته الفنـية. ولعل

ــــــــــد يعقويب من أبرز من قاموا هبــــــــــذا مبعاجلة فنية الفتة للنظر، وعمله مهن

اجلرس المعروض هنا هو جزء من مرشوع أكرب يبحث يف المدونة الفلمية

ــــــــــة والســــــــــينمائية للذاكرة الفلســــــــــطينية يف ارحتاالهتا المهاجرة عرب التوثيقي

بلدان عدة.33

يقــــــــــوم اجلرس (2012، فيديــــــــــو، ‘32:“23) عىل فكرة أاسســــــــــية مفادها

ع أننا نســــــــــتطيع إعــــــــــادة تركيب أحداث من الذاكرة الفلســــــــــطينية عرب تتب

مــــــــــاسرات هجرة قطع خمتلفة من المدونة البرصية الفلســــــــــطينية، عامة،

ومن المدونــــــــــة الفلمية، حتديدا، ومن جتميعها من جديد كقصة حدث.

ا ولقد وجــــــــــد مهند يعقويب، خالل حبثه هذا، أن هنالك تســــــــــجيال فلمي

ــــــــــة عبور الجئني جرس العودة /الملك حســــــــــني /أللنيب يف أحد أيام لعملي

يــــــــــران، حيث جيري اقتبــــــــــاس هذا التصويــــــــــر يف أغلب األفالم حــــــــــرب حز

ية عن القضية الفلســــــــــطينية لغاية أواســــــــــط الوثائقية والصحفية والتجار

ســــــــــبعينيات القرن العرشين. ومــــــــــن فحص التصوير تبــــــــــني أن من قام به

ية الذي -كغــــــــــريه من الالجئني يف هو المصور الفلســــــــــطيين هــــــــــاين جوهر

حــــــــــرب حزيران- اضطر إىل قطع اجلرس وهــــــــــو حيمل كل ما ميلك: الكامريا

وأرشطــــــــــة التســــــــــجيل.34 يف اجلرس يقتبس /يســــــــــتعيد مهند االقتبااست

ا المختلفة من سبعة أفالم خمتلفة، ويركهبا معا ليخلق قصة العبور برصي

للمقارنة، راجع: 33الزبيدي، قيس، 2006. فلسطني يف السينما. بريوت: مؤسسة الدرااست الفلسطينية.

ية، انظر: حول عرض أويل عن هاين جوهر 34شــــــــــميط، وليد، وهنيبل، غي، (حمرران) 2006. فلسطني يف السينما. رام الله: الهيئة العامة

للكتاب- وزارة الثقافة، ط2.

اجلرس، 2012، فيديو، ‘32:“23.

Page 27: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

5253

من جديد.35 تتباين هذه األفالم من حيث النوع (genre)، والســــــــــياق،

واإليديولوجيــــــــــا اليت حفزت خمرج الفيلم ومنتجــــــــــه لصناعته. وبالرغم من

ية، ويســــــــــتخدمون مقاطع ذلك، كلهم يســــــــــتخدمون تصوير هاين جوهر

منه بأشــــــــــكال خمتلفــــــــــة ختدم الفيلم العيين وأهــــــــــداف صانعيه. قام مهند

بتجميع الماشهد المختلفة، واليت تبدأ من أول اجلرس إىل آخره، وركب

ــــــــــة). الماشهد اإليقاع بشــــــــــكل بطيء (مبقــــــــــدار %15 من الرسعة العادي

عبارة عن تيار متدفق من الرجال والناسء واألطفال والشــــــــــيوخ والعجائز

يقطعــــــــــون اجلرس الذي فجر خالل احلــــــــــرب، فيضطرهم ذلك إىل الصعود

والهبوط والقفز واالنـزالق، وأحيانا أخرى النـزول إىل مياه الهنر المتدفقة

ــــــــــن يقطع الهنر عرب مياهه. ذاهتا حيث جرى ربط حبلني ليمســــــــــك هبما م

أغلب الناس يف حالة من السعي يف أحد االجتاهني، والكل حيمل أطفاال

ا. ال ينجح الكل يف العبور. وحقائب ســــــــــفر وبقجا ذات أحجــــــــــام كبرية جد

امرأة يف أوســــــــــط العمر تلوح بيدهــــــــــا أن مروا برسعة ليأيت من أحبث عنه،

البعض بسبب العمر والوهن فيمسك بيدها أحدهم لتميش، البعض

يقــــــــــع حتت ثقل البقجــــــــــة فيقوم رجل ما حبملها ومد يــــــــــده للمرأة الاشبة

لتهنض من وضعية ســــــــــقوطها، طفلتان شــــــــــعرهما أشعث وفستاناهما

ــــــــــة ذات طابع طفويل تقفزان من فوق انشــــــــــطار مزركاشن بأشــــــــــكال وردي

يف اجلــــــــــرس، وإذا بيد من خلفهما تدفعهمــــــــــا إىل األمام. امرأة تبدو يف أوج

أنوثهتا المهزومة حتمل رضيعها يف حضهنا، حتوطه بيدها اليرسى، جتلس

عــــــــــىل أرضية اجلرس المائلــــــــــة بزاوية حادة إىل األمــــــــــام، وبيدها اليمىن ابهنا

الثاين الذي يكاد ال يبلغ متام الســــــــــنتني، ولكنه مييش، تشده إىل األسفل

األفالم السبعة هي: 35Jordanian Report, a film by Dimitri Rimariv, USSR, 1970.L’olivier, a film by Groupe Cinéma Vincennes, France, 1976. Madina, a film by Ali Siam, Jordan, 1986.Al-Fateh, a film by Luigi Perille, Italy, 1970.Oppressed People Are always right, a film by Nils Vest, Denmark, 1976. Pales ne, a film by RFA, Germany, 1971.A ermath, A film by (Uknown), UNRWA 1967.

فيجلس، فتبدأ بالزتحلق رويدا رويدا مســــــــــتخدمة قدمهيا لتفرمل شدة

الزتحلق. هكذا تتواىل ماشهد اخلروج ببطء شديد حيتم عىل الماشهد

ص جســــــــــد الصورة ذاتــــــــــه، دون االنتبــــــــــاه -يف الماشهدة األوىل عىل تفح

األقل- إىل القصة العامة.

مما ال شــــــــــك فيــــــــــه أن التصوير هــــــــــو ترتيب مقصود لألحــــــــــداث عىل حمور

ــــــــــة يف منطها. من زمــــــــــين منمط، ما حيدد شــــــــــكل برصيته هــــــــــو مادته الزمني

ية األاسســــــــــية تبدأ مــــــــــن اللعب بعالقة مادة هنــــــــــا، إن المعاجلة التصوير

احلــــــــــدث بالاسئل الزمــــــــــين المتدفق كمونا بعــــــــــدة اجتاهات، وهذا مما قد

يفتح القدرة التشكيلية اجلمالية عىل مدى مواز حلمولة مادة التناقضات

ــــــــــة. يف المحاولة النتاشل حلظة اخلروج الفلســــــــــطينية ــــــــــة التارخيي االجتماعي

من ذاكرة المدونــــــــــة البرصية، هنالك حاجة إىل المرور عرب أكرث من نطاق

زمين واحد، وليس كلها بالســــــــــعي للعودة إىل الوراء والنـزول إىل العمق.

النطــــــــــاق األول واألاسيس هو اآلن ومــــــــــا يف بنيته من ممزيات عالئقية حتتم

ية. ل يف ذاكرة الهجرة واللجوء التصوير إعادة الرتكيب للحدث المســــــــــج

النطــــــــــاق الثاين هو حلظة احلــــــــــدث وتصويرها الذي هو مهنــــــــــا ولكنه أيضا

ل نطاقا ثالثا. أما ذلك الرابع، فهو حلظة اســــــــــتخدام التصوير األول يشــــــــــك

ية. أما النطاق الزمــــــــــين اخلامس، فهو اللحظة الــــــــــذي قام به هــــــــــاين جوهر

ــــــــــة لفعل إعــــــــــادة الرتكيب واليت تتضمن العــــــــــرض والماشهدة كجزء اآلني

مــــــــــن الرتكيب أيضا. إن تراكم الطبقات الزمنية المتنوعة يف ذات اللحظة

جعل من إعادة تركيب مادة احلدث الفلسطيين ”اخلروج“ الفلمية فعال

ثقيال من حيث إنه معاجلة جلســــــــــد احلــــــــــدث عرب معاجلة حمددة لمجموعة

من األجاسد الزمنية، واليت برتصيصها أصبحت من الثقل مبكان مما حتم

عىل مهند أن يبطئ سريها إىل نسبة %15 من حالة اإليقاع العادي، أي

د المواقع الزمنية وإعادة الرتكيب ا من حالة التوقيف. إن تعد ــــــــــا جد يب قر

هبذا الشــــــــــكل اإليقاعي هو يف حقيقته يرد إىل بؤرة المأسلة األاسسية يف

ية التدوينية تفحص ذاهتا عرب تارخي هذا العمل، وهي أن التقنية التصوير

Page 28: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

5455

استخدامها لرتحل مهاجرة إىل اآلن عىل كنف السؤال الذي ال يربح يدق

زمن كل مهاجر /الجئ حول ماهية اآلن التالية القادمة ال حمالة.

ن اإليقاع البطيء يف اجلرس من التمعن يف جســــــــــدية الصورة، وبذلك ك مي

ا مع الشــــــــــخصيات اليت متــــــــــر بعملية اخلروج عرب ا جد خيلق فضــــــــــاء محيمي

عبــــــــــور اجلرس. فالوجوه واألجاسد والمالبــــــــــس واحلركات وتفاصيل اجلرس

والمتــــــــــاع واألحذية اليت ســــــــــقطت من األقدام المهرولــــــــــة، كل هذه وأكرث

(حنو: الهنر؛ العدو اخللفي؛ العدو األمامي؛ الصليب األمحر) ال ميكن لك

أن تناسهــــــــــا ألنك كماشهد/ة تراوح وقتا مضاعفا فيما يبدو عىل أنك

تتأملها لتكتشــــــــــف أن الوكالة يف التأمل تقبع يف العمل من حيث إيقاعه

وتركيبــــــــــه اللذين حيــــــــــوالن إيقاعك أنت الماشهد إىل متأمل يف ســــــــــلوكه

وماشعره وفكره حلظة اخلروج. إن السعي يف اخلروج هو بداية السعي يف

العودة، والعودة اليت يقيمها مهند إىل حلظة اخلروج النموذجية هذه، هي

دعــــــــــوة إىل تصفري طريق العودة من جديد عرب اإلحلاح المراوح يف جســــــــــد

اخلروج /العودة. إن مهشد الســــــــــعي اجلمعي عىل جرس اخلروج /العودة

هــــــــــو النحوية األاسس للجماعة الفلســــــــــطينية يف ذاكرهتــــــــــا كما يف هجرهتا

س وترحالهــــــــــا، المقيم فهيا وذلك المرشد. إن اجلــــــــــرس يدخلنا إىل المقد

الفلســــــــــطيين، طريق اخلروج /العودة، عرب الدخول يف منطق التكنولوجيا

ية، معاجلة احلدث زمنا، مما ميكننا من ماسءلة كلهيما، المقدس التصوير

ا: مىت سنعود؟ والمنطق، مجالي

.9

ــــــــــم العديد من شــــــــــكلت المأاسة الفلســــــــــطينية مفرتقا يســــــــــتقطب ويله

التجارب يف شىت المجاالت االجتماعية، عامة، والفنـية، حتديدا. ونتيجة

لترشذم المجتمع الفلســــــــــطيين، اسهــــــــــم جتوال الفلســــــــــطينيني القرسي

يف العالمني العريب واإلســــــــــالمي، كما يف العالم عامة، باســــــــــتحضار شىت

التجارب وصقلها يف بوتقهتم اجلمعية. يف هذا المعرض، هنالك جتربتان

خمتلفتان تنشــــــــــبكان مع الذاكرة والهتجري والهجــــــــــرة، عامة، وهما يعمالن

مبثابة إاشرة مرآتية خارجية، للوهلة األوىل، للتجربة الفنـية الفلســــــــــطينية

اليت حناول تبيان مالحمها هنا. األوىل هي للفنان التونيس إسماعيل حبري

Orientations (2010)، والثانية للفنان األمريكي من أصول أفريقية

وآســــــــــيوية فازال شــــــــــيخ Erasure (2012). أسقوم بداية بعرض عمل

الفيديو إلســــــــــماعيل حبري، ويف القســــــــــم التايل أستطرق إىل أعمال فازال

شيخ الفوتوغرافية.

ــــــــــة العربية اإلســــــــــالمية هي الشــــــــــجرة األم بالنســــــــــبة ي إن احلاضنــــــــــة احلضار

ــــــــــة، وإىل حد ما الفنون التشــــــــــكيلية، أيضا.36 للثقافة الفلســــــــــطينية، عام

ولقــــــــــد درس العديــــــــــد مــــــــــن الفنانــــــــــني/ات الفلســــــــــطينني/ات يف العالم

العــــــــــريب، حتديدا يف مرص والاشم والعراق، كمــــــــــا اسهم العديد مهنم يف

ا. بناء احلركات الفنـية التشــــــــــكيلية يف هذه البلدان وتقعيدها مؤساستي

ولعل جتربة جربا إبراهيم جربا مع احلركة الفنـية التشــــــــــكيلية العراقية هي

ية األبرز يف هذا المجال، إال أهنا ليســــــــــت الوحيدة. إىل هذا تنضاف مركز

المأاسة الفلسطينية كمحور وجداين وكانتماء مجعي ال يزال يعمل كتيار

هنــــــــــر متدفق ميد الكثري مــــــــــن المبدعني/ات يف العالم العريب اإلســــــــــالمي

مبادة أاسســــــــــية ترفد عملهم الفين بأشكال عدة، مهنا المبارش والمريئ،

ومهنــــــــــا ما هو باطن وخفي. وإن كان ال يزال اإلهسام الثقايف الفلســــــــــطيين

األبرز للثقافة العربية المعارصة هو يف مرشوع حممود درويش الشــــــــــعري،

فإن المحمول البرصي، عامة، والفين منه، حتديدا، للتجربة الفلسطينية

ــــــــــاس لرافد ممزي وبارز يف المهشد العــــــــــريب البرصي الفين عىل تنوعه بني أس

مرشق ومغرب ضمن تصنيفات أخرى.

ية الصهيونية ويف أحيــــــــــان عديدة، تثــــــــــار المقارنة بني التجربة االســــــــــتعمار

ية الفرنســــــــــية يف المغــــــــــرب العريب من يف فلســــــــــطني والتجربة االســــــــــتعمار

ليــــــــــس مثة مفتــــــــــاح index واحد جامــــــــــع للفن الفلســــــــــطيين وللفنانني/ات. يوثق إســــــــــماعيل 36شموط يف كتابه آنف الذكر للعديد من الفنانني الذين درسوا يف العالم العريب حبسب الدولة

والمعهد.شموط، 1989. الفن التشكييل يف فلسطني.

Page 29: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

5657

ــــــــــة، مع تركزي عىل حيــــــــــث المجاالت السياســــــــــية وحــــــــــركات التحرر الوطني

المقارنة بني التاشبه واالختالف بني منظوميت االســــــــــتعمار. ولعل فحص

التجربــــــــــة الفنـية يف المغرب العــــــــــريب، مقارنة مع ما جيري اآلن يف المهشد

الفلسطيين من حيث تقنيات تدوين الذاكرة والهتجري والهجرة، قد يفتح

ر اســــــــــتحضاره بعد،37 وعىل وجه التحديد ذلك األفق لنا أفقا آخر لم جي

التشــــــــــكييل الذي تقوم من خالله هذه المجتمعات مبواجهة التناقضات

ية اليت تواجهها. ومن مراجعة العديد ية والما بعد استعمار االســــــــــتعمار

من األعمال الفنـية لفنانني من المغرب العريب يف المهجر الفرنيس، يبدو

ا يعــــــــــود من صنمية الصورة ولغهتا يف الســــــــــياق أن هنالك تيارا أاسســــــــــي

ا حول الكلمة العربية وفنوهنا.38 الفرنيس والغريب، عامة، ليتــــــــــاسءل فنـي

بذلــــــــــك فإن كان ســــــــــعي الفنان/ة الفلســــــــــطيين/ة هيــــــــــدف إىل التخلص

ــــــــــة الفنـية باجتاه حنــــــــــت لغة برصية مــــــــــن ســــــــــطوة الكلمة عىل لغتــــــــــه البرصي

ذات منطق مســــــــــتقل باختالفه عــــــــــن منطق الكلمة، يبــــــــــدو أن الفنان/ة

ا، من خالل حبثه الفين يف الكلمة العربية ي ا ورمز المغــــــــــاريب/ة يعود، حرفي

انظر الدراســــــــــة التالية اليت حتاول أن ترصد ســــــــــريورة الفن التشكييل يف العالم العريب من الفرتة 37العثمانية إىل فرتة االستعمار الغريب، ففرتة االستقالل الوطين:

داغر، رشبل، 2006. العني واللوحة: المحرتفات العربية. بريوت: المركز الثقايف العريب. حول العالقة بني النظام االســــــــــتعماري الفرنيس وتدريس الفن يف المغرب، وفق المتوافر من

معلومات لدى مؤلف المقالة، ليس مثة دراسة شبهية يف السياق الفلسطيين:Irbouh, H., 2005. Art in the Service of Colonialism: French art educa on in Mo-

rocco, 1912-1956. London: I. B. Tauris Publishers. انظر حبث رشبل داغر التايل حول تأصيل احلسن ومذاهبه يف العرص اإلسالمي األول، وحتديدا 38

ما يتعلق بالكتابة والكلمة: داغــــــــــر، رشبل، 1998. مذاهب احلســــــــــن: قراءة معجمية-تارخيية للفنــــــــــون العربية. بريوت:

المركز الثقايف العريب واجلمعية الملكية للفنون اجلميلة (األردن)، ص 357-307.

من حيث ماديهتا وتشكيلها ومجاليهتا ليسعى لتجاوز مجايل نقدي لثنائية

الصــــــــــورة /الكلمة.39 وإذ حنن بصــــــــــدد فحص هذه التحوالت عرب تقنيات

تدويــــــــــن الذاكرة والهتجري والهجرة، فمما ال شــــــــــك فيــــــــــه أن أعمال الفنان

التونــــــــــيس إســــــــــماعيل البحري، عامة، وتلك اليت يشــــــــــكل احلرب األســــــــــود

مركزهــــــــــا، حتديدا، هي أحــــــــــد األمثلة النموذجية عىل هــــــــــذا التوجه. لقد

قام اســــــــــماعيل بتشكيل ثالثة أعمال مركزها ســــــــــرية وصريورة احلرب هي:

Sang d’encre ،(2009) Resonances (2009)، وعملــــــــــه يف هذا

المعرض، Orientations (2010) -وهو الذي سنتناوله هنا بتوسع

ما.

Orientations (2010، فيديــــــــــو، ‘28: ”40) هــــــــــو فيديــــــــــو يســــــــــجل

ثالث جوالت ســــــــــريا عىل األقــــــــــدام يف تونس المدينة ليكتشــــــــــفها بطريقة

خاصة طورها إســــــــــماعيل لهــــــــــذا العمل. فهو حيمل بيــــــــــده اليرسى كأس

زجاج صغرية مليئة باسئل احلرب األســــــــــود، وبيده اليمىن كامريا تصوير من

خاللها جرى تســــــــــجيل العمل. كأس احلرب يف اليد اليرسى هي اليت تقود

حاملها، فهي تبحث يف شــــــــــوارع المدينة عن اجتاهات لماسرات ممكنة،

ا ومن ثم إىل اخللف، إىل األعىل وإىل ي ولهــــــــــذا فهي تتحرك إىل األمام، دائر

هــــــــــذا انطباع عام وأويل حول ما جيري يف احلقل الفين العــــــــــريب المغاريب يف المهجر، وهو حباجة 39كرث من فنان واحد. ولعل العمل المعروض هنا هو منوذجي لهذا إىل فحص أكرث من عمل أل

التيار. لالطالع عىل والمقارنة مع مداخالت أخرى، انظر:Farjam, L., (ed.) 2009. Unveild: New art from the Middle East. London: Booth-

Clibborn Edi ons.Monem, N., (ed.) 2009. Contemporary Art in the Middle East. London: Black

Dog Publishing.

أورينتيشن، 2010، فيديو، ‘28: ”40.

Page 30: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

5859

األســــــــــفل، تتجه ميينا وشماال، تقف يف موقعها لتستكشف ومن ثم ختتار

اجتاها ومتيش فيه. يف حالة الســــــــــري والتجوال، اخللفية هي أرضية المدينة

من شــــــــــوارع وأرصفــــــــــة وما علهيا من أعــــــــــاشب ومياه وأعقاب ســــــــــجائر،

حيث تبدو منطقة يف حي ســــــــــكين شعيب حبسب النسيج البنايئ ألرضية

الشــــــــــوارع. بشــــــــــكل منطي، كلما مرت فرتة بني دقيقتــــــــــني إىل ثالث دقائق

من البحث احلركي النشــــــــــط، تســــــــــتقر الكأس ذات احلرب األسود الاسئل

عىل موقع ما عىل أرض الاشرع أو عىل الرصيف، فيضعها إســــــــــماعيل يف

الموقع المحدد. بعد أن تســــــــــتقر يف موقعها، تقرتب عدسة الكامريا إىل

أن يصبح حميط فوهة الكأس وما بداخلها من سطح احلرب يف بؤرة التصوير

الواضح، بينما ما حوله يصبح يف حالة غباش تام وال ميكن رؤية تفاصيله،

وإمنا يصبح خلفية لونية غامئة متاما. حبركة واثقة تتجه العدسة إىل سطح

الاسئــــــــــل احلربي لتتفحص صورة المدينة المنعكســــــــــة عىل ســــــــــطح احلرب،

جتول العدسة يف العدسة احلربية لرتى الزاويا المختلفة لما ينعكس فهيا

من صورة المدينة. تســــــــــتقر العدســــــــــة عىل صورة ما يف العدســــــــــة احلربية،

وكأهنا مرت يف حوار معها فامزتجتا وتركب مهنما تشكيل صوري جديد،

أحيانا نرى عمارة ســــــــــكنية أو واجههتا، ونرى كذلــــــــــك لوحة إعالنات مع

دعايــــــــــة ملونة بألوان فاقعــــــــــة، أكرث من مرة نرى أشــــــــــجارا خمتلفة من رسو

وصفصاف، ونرى واجهة عمارة مؤسســــــــــة رســــــــــمية أمامهــــــــــا علم تونس

الدولــــــــــة، يف أحيان أخرى يكون الرتكزي عىل مــــــــــا علق عىل واجهة البنايات

ا سميكا، ضمن يز وقرميد، ونرى أيضا سلكا كهربائي من أســــــــــالك وأفار

ما قــــــــــد ينوجد يف أعىل المدينة. هبذه السلســــــــــلة من الصور، كأن اسئل

احلرب يعمل كعدســــــــــة تقلب المدينة حبيث نراها معكوســــــــــة، بالرغم من

أننــــــــــا نقف عىل أرضها. من الالفت للنظر أنه خالل العمل ال ناشهد أي

ملمح من مالحم المدينة ســــــــــوى أرضيهتا، وبعض أطراف سيارة أو اثنتني،

نسمع صوت ســــــــــيارات بعيدة، ونباح كلب لمرة واحدة. يف هناية اجلولة

الثالثة، أي هناية العمل، يتقدم رجل من إســــــــــماعيل ويبدأ بســــــــــؤاله عما

ر هو إســــــــــماعيل الفنان، وأنه يعمــــــــــل. من احلوار بيهنمــــــــــا، نفهم أن المصو

يســــــــــعى لتصوير المدينة عرب الاسئل احلربي بشــــــــــكل مقلوب. يستغرب

ــــــــــة الفنان الذي يطمئنه قائال إنه تونيس. الرجل، وحياول أن يفحص هوي

هنا ينهتي العمل، أي باإلعالن عن هوية الفنان.

يلتقط إسماعيل يف هذا العمل من خالل عدسته احلربية صورا لمدينته

ال ميكن لها أن تدون بسبب من كوهنا هشة وعابرة، إال أن هذه الصفات

بالذات هــــــــــي اليت تقــــــــــف يف أاسس احلمولة الفنـية التشــــــــــكيلية للعمل.

فهذه الصور هي حلظات انعكاس لفضــــــــــاء المدينة العلوي بالمقلوب،

ا أنه ــــــــــه معطى ومفهوم ضمني والــــــــــذي يف المعتاد ال ننظر إليه وال نراه ألن

هنالك فوق فضاء ما، وأننا لسنا حباجة إىل التأكد من أنه موجود فعال.

هذا باإلضافة إىل أن الفضاء المديين العلوي مرهون مبوقع الوقوف عىل

األرض، حبيث إنك ترى ما هو فوق الموقع ومن زاويته المحددة فقط.

فالصور المنعكسة عىل ســــــــــطح احلرب هي نتيجة معاجلة تشكيلية حمددة،

visual estrange- يــــــــــب البرصي تعمــــــــــل وفق ثالث خطوات من التغر

ment. اخلطوة األوىل تكون بإزالة الغاشء عن المهشد البرصي العلوي،

ومــــــــــن ثم حتويله إىل مادة للمعاجلة التشــــــــــكيلية، وجرى ذلك بالتجوال يف

أرض المدينة حبثا عما يف ســــــــــماهئا من كمــــــــــون برصي. اخلطوة الثانية هي

اســــــــــتخدام الاسئل احلربي اللتقاط حلظات مقلوبة، أي عابرة غري ثابتة،

للفضاء الذي جرى حتويله إىل مادة برصية أولية. أما اخلطوة الثالثة، فهي

عملية تصوير ما ينعكس يف ســــــــــطح الاسئل مــــــــــن صور للمدينة العلوية،

إال أن التصوير تشــــــــــكيل؛ أي إن طريقة االنشباك وزاويهتا والبحث يف ما

ميكن التقاطه يف سطح الاسئل، كل هذا يؤدي إىل إنتاج /تشكيل صورة

أهــــــــــم ما فهيا أهنا ال تكون إال حلظة تصويرها فقط. هذا التغريب البرصي

خبطواته الثالث هو عملية حبث شكالنية ترد إىل التوتر /القلق األاسيس

نة. أو، النــــــــــاجت عن التناقض بــــــــــني تقنيات التدوين وطبيعة المــــــــــادة المدو

نة؟ هل التحوالت يف تقنيات التدوين تؤدي إىل حتوالت يف المادة المدو

Page 31: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

6061

حتمل الكامريا القلم /الريشة بداخل بنيهتا عرب حلها جلزء من تناقضاهتما

ل ــــــــــة واليت كانــــــــــت حتد من عمل الكاتب /الــــــــــراسم وتصوغه كتمث البنيوي

إزاحــــــــــي للواقع احليس الذهين. أما ذلك اجلزء من التناقضات، الذي لم

ل، فهــــــــــو يرد إىل مادية المادة وعالقهتــــــــــا بالتقنية، ومن هنا ”اضطرار“ حي

إسماعيل إىل العودة للحرب الاسئل مادة الكتابة األوىل. إن عملية فحص

إمكانية عمل احلرب كعدسة تصوير يفتح سؤال مادية مادة تقنية التدوين،

وذلــــــــــك لإلاشرة إىل التناقض األاسيس بني التقنية والمادة اليت جيب أن

ا ميكنه من أن يعمل كوسيط ن. احلرب، مادة الكتابة، حيمل كمونا مادي تدو

ــــــــــة حمددة جيــــــــــري حتقيق هذا الكمــــــــــون. وكأن للتصويــــــــــر، ويف حلظــــــــــة تارخيي

إســــــــــماعيل يقول إن الكتابــــــــــة هي حاملة للتصويــــــــــر، وإن كان هذا األخري

ا. هذه المراوحة التوليدية ا فإنه لم يقطع معها مادي قــــــــــد قطع معها لغوي

بني مادة الكلمة ومادة الصورة تشــــــــــري إىل أن سؤال مادة الفضاء المديين

ســــــــــيبقى مفتوحا، حيــــــــــث إن االحتماالت الكامنة هبــــــــــذه المادة ال ميكن

ــــــــــة تدوين عينية تلتقط حرصهــــــــــا مبادية تقنية التدوين الاسئدة. كل تقني

جزءا واحدا فقط من حدث /مادية المادة القابلة للتدوين، بينما تبقى

األجزاء األخرى عابرة وهشــــــــــة، وأخرى غري مرئية، وثالثة ال تقبل المعاجلة

البرصية االجتماعية.

ر الناس مدهنم بالكامريا، قدميــــــــــا، كتب الناس مدهنم باحلرب، وحديثا صو

ويف احلالتــــــــــني يعيــــــــــش الناس يف مدهنم. أما الفلســــــــــطينيون، فيعيشــــــــــون

هبا تلــــــــــك العربية مدينهتــــــــــم يف ذاكــــــــــرة مهاجرة مــــــــــن مدينة ألخــــــــــرى، أقر

اإلســــــــــالمية. والتحوالت يف تقنيات تدوين المدينة العربية اإلســــــــــالمية،

هي ذات التحوالت يف تقنيات تدوين المأاسة الفلســــــــــطينية من الكتابة

إىل التصوير، من الكلمة إىل الصورة، إال أن هنالك اختالفات أاسســــــــــية

ــــــــــة لهذا التحول. إن ي ــــــــــم يف القدرة عىل الماسءلة اجلذر يف اإليقــــــــــاع ومن ث

مداخلة إســــــــــماعيل حبــــــــــري اجلمالية حول حدود التشــــــــــكيل لــــــــــكل تقنية

تدوين، والعالقة بني التقنيات المختلفة كما ماديهتا، تفتح فضاء المدينة

ا إىل جانب كونــــــــــه تقنية تدوين ي ا صور اإلســــــــــالمية اليت رأت بالكتابــــــــــة فن

واتصــــــــــال. بعبارة أخرى يتكــــــــــئ البحري عىل إرث مدينتــــــــــه ليفتح حارضه

التكنولوجي. وهنا يتقاطع الســــــــــعي الزمين يف طريق العودة إىل المدينة

العربية اإلســــــــــالمية، مع الســــــــــعي المكاين يف طريق العــــــــــودة إىل المدينة

الفلســــــــــطينية. فبالمستوى األول، الســــــــــعي يف طريق العودة الفلسطيين

ال بد له أن مير عرب الســــــــــعي الزمين يف طريق المدينة العربية اإلســــــــــالمية

لكي يتم. أما يف مســــــــــتوى تقنيات التدوين، فالسؤال الذي حيمله عمل

إســــــــــماعيل هو حول الهش والعابر يف جتربة المأاسة الفلسطينية والذي

ــــــــــات القامئة، ويف حال تدوينه حيــــــــــول التقنية ذاهتا عرب ن“ بالتقني ــــــــــدو ال ”ي

اســــــــــتنفاد تناقضاهتا المولدة. حتديدا، يصبح السؤال: كيف حتول المادة

/احلدث تقنيات التدوين؟ وهذا منطق حركة التارخي.

.10

ن بعد، ال ألن ميكننــــــــــا القول اليوم إن جل المأاسة الفلســــــــــطينية لم يدو

المؤسســــــــــة الفلسطينية الرسمية تتســــــــــم بفقر بنيوي يف التقاط تسجيل

ــــــــــة المادة وتــــــــــداول األحــــــــــداث ذات الصلة هبا، بــــــــــل يعود ذلك إىل نوعي

األاسســــــــــية للمأاسة الفلســــــــــطينية يف تقاطعها الرأســــــــــمايل االستعماري

بطبعتــــــــــه الصهيونية، تلك المادة غــــــــــري القابلة للتلفظ مبعايري إيديولوجييا

منــــــــــط اإلنتاج الرأســــــــــمايل، فإىل حد بعيد إن مأاسة فلســــــــــطني هي الركن

األاسس يف الــــــــــال وعي اإليديولوجي لهــــــــــذه البنية. وبالرغم من ذلك، إن

ــــــــــظ يف المأاسة الفلســــــــــطينية (وبذلك فهو غري قابل المجــــــــــال غري المتلف

للتدويــــــــــن عــــــــــرب التقنيات المألوفة لنــــــــــا) ليس غائبا من حيــــــــــث فاعليته،

لــــــــــه. ولعل ما يبدو عىل أنه تناقض، بــــــــــل رمبا يكون أكرث حضورا بعدم تقو

ــــــــــة أكرث للغياب من حالة التدوين والظهــــــــــور المريئ، هو ما ميزي أي فاعلي

شــــــــــكال معينا من الضحية يف الطور الرأســــــــــمايل /االســــــــــتعماري المتأخر.

ــــــــــة، الضابطة لعملية فهذا الطور من الرأســــــــــمالية يتمزي بكون آلته الرقمي

Page 32: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

6263

اإلنتــــــــــاج برمهتا، هــــــــــي من الفعل الشــــــــــمويل مبكان حبيــــــــــث إن كل حضور

أو هيئــــــــــة ظهــــــــــور ال بد لها أن تكــــــــــون عرب لغته، ومــــــــــا ال يدخل هذه اللغة

فهــــــــــو غري قابــــــــــل للتلفظ، أي يبقى غائبا مبعايري النظــــــــــام، ال مبعايري مادية

تارخيية أخرى.40 والســــــــــؤال الذي ينبثق من التجربة الفلسطينية يف هذا

اجلانب، وعىل خلفية ضحايا جنوب المعمورة المتعددين/ات ومقارنة

ا، ا ومفاهيمي ــــــــــا وبرصي معهم، هــــــــــو حول رضورة فحص هذه المزية رسدي

بلغــــــــــة غري نظامية أي غري تلــــــــــك اليت يوفرها النظام اجلــــــــــاين. من المقارنة

بــــــــــني عدة جتارب جنوبية، نــــــــــرى أن هنالك نوعا من الضحية جيري إنتاجه

وتداولــــــــــه داخل هذا النظام، بينما مثة أنواع أخرى عديدة من المآيس ال

ميكن لها أن تدخل مصفاة التســــــــــجيل النظامــــــــــي.41 من هنا، فإننا نفهم

أن صناعة الضحية، بكل ما حيمله هذا المفهوم من ســــــــــخرية ســــــــــوداء /

ية لعمل التشــــــــــكيلة محــــــــــراء، هي عبارة عن تشــــــــــكيلة من العالقات رضور

ــــــــــة االقتصادية يف أطوارها المختلفــــــــــة، أي إن عمليات اإلنتاج االجتماعي

المادية االجتماعية، وإعــــــــــادة إنتاج البنية االجتماعية العامة، حتتم -لكي

تعمــــــــــل كبنية تارخيية- أن تصنع «اجلاين» و «الضحية» حبســــــــــب اللحظة

ــــــــــة لنظــــــــــام اإلنتاج الاسئد، الرأســــــــــمايل عىل أطــــــــــواره. والتحدي يف العيني

المقارنــــــــــة ويف التقاط غــــــــــري المتلفظ، هبيئته غري المرئية، هو باســــــــــتنطاق

مــــــــــادة احلدث اليت قــــــــــد حتول حدث المادة، ال باجتــــــــــاه احلضور النظامي،

وإمنــــــــــا باجتاهات تبين ماسرات االنعتاق من النظــــــــــام كفعل احلياة األول.

إن مرشوع Fazal Sheikh فازال شــــــــــيخ حمو Erasure (2012، تصوير

فوتوغرايف) يقوم بالســــــــــعي اللتقاط أجزاء متبعرثة من عمليات المحو يف

المأاسة الفلســــــــــطينية عرب إعادة بناء لقصص ولصور هذه األجزاء. لقد

للتوسع يف هذا الموضوع، انظر: 40ناشف، إسماعيل، 2010. العتبة يف فتح اإلبستيم. رام الله: مواطن.

حول تطوير نقطة ارتكاز معرفية ال-نظامية يف سياق الرأسمالية المتأخرة، انظر: 41ية: فلسطني منوذجا. عند ناشــــــــــف، إسماعيل، 2011. حول إمكانية دراســــــــــة النظم االستعمار إســــــــــماعيل ناشف (حمرر) النفي يف كتابة إرسائيل: أحباث فلسطينية حول النظام والمجتمع

والدولة يف إرسائيل. رام الله: مدار المركز الفلسطيين للدرااست اإلرسائيلية، ص 28-7.

حبث فازال عن هذه األجزاء يف المثلث الشمايل (وعىل وجه التحديد يف

أم الفحم)، ويف الضفة الغربية، ويف النقب. الصور اليت تعرض يف ذاكرة

وهجرة هي جزء من المرشوع الذي نفذ يف أم الفحم.

ع وتوثيق اجلماعات اليت يقوم النظام بضحينهتا عىل يقوم فازال شيخ بتتب

امتــــــــــداد الرشيط اجلنويب للمعمورة؛ ابتداء مــــــــــن خميمات اللجوء يف رشق

أفريقيا، مرورا بأفغانستان، فالهند، فالباكستان، وعودة إىل المهجرين

الســــــــــجناء داخل المؤساست الهجرة يف أوروبا، وحتديدا يف هولندا. عرب

ر فــــــــــازال تقنيات تدوين عدة جتارب مــــــــــع مجاعات مهجرة ومقموعة، طو

ية هي الهشــــــــــادة /اإلفادة الشــــــــــخصية والبورتريه، وذلك ــــــــــة تصوير رسدي

بغية احلصول عىل والتقاط األحداث من الذاكرة المهاجرة باجتاه اآلن.42

ومــــــــــن المالحــــــــــظ، أن فازال وصل (عــــــــــىل األقل بالمســــــــــتوى المعلن) إىل

فلســــــــــطني متأخرا نســــــــــبة إىل مــــــــــرشوع جتواله يف حمطــــــــــات صناعة الضحية

وتداولها.43 وقد يعود ذلك إىل أن الفلسطينيني، لمن متوضع يف اجلانب

المؤســــــــــاسيت الغريب للنظر Gaze، ال تنطبق علهيم التشــــــــــكيلة اخلطابية

لة كماركة يف سوق النظام الرأسمايل الرسدية والبرصية للضحية المســــــــــج

/االستعماري. فهم/ن ال يعانون من جوع وال يبدو علهيم الفقر المدقع،

أجاسمهم/ن ليســــــــــت حنيلة وخدودهم مكتزنة ووردية ال ترى عظامها،

يلبســــــــــون ويتحدثون ال كأصحاب قضية وحق فحســــــــــب، بل إن بعضهم

ــــــــــن تداول جتاري للمــــــــــأاسة. كذلك هنالــــــــــك جانب أاسيس يف يــــــــــاء م أثر

يهتا جتاه النظام ومراوغهتا الضحية الغائب عند الفلسطيين، وهو اعتذار

له. مما ال شــــــــــك فيه أن الفلســــــــــطيين اليوم يف حلظــــــــــة االتصال األولية معه

هنالك العديد من المقاالت والكتب حول أعمال فازال شيخ. انظر -مثال-: 42Cadava, E., 2011. Trees Hands Stars and Veils: The portrait in ruins. In F. Sheikh

Portraits. Go ngen: Steidl. منــــــــــذ بدايــــــــــة نــــــــــرش أعمالــــــــــه الفوتوغرافية، حصل فــــــــــازال عىل العديــــــــــد من اجلوائــــــــــز المهمة يف 43المؤســــــــــاست الفنـية الغربية والعالمية، وال يزال يعترب من أهم ممن جيرفون اجلوائز ومنح التفرغ يف جماله، كما أن أعماله اقتنهتا أهم المتاحف يف أرجاء العالم. وهذه داللة عىل أنه كفنان حيتل يارة موقعه كادميية. للتعرف عليه أكرث، يف اإلمكان ز موقعا مرموقا داخل المؤسسة الفنـية واأل

التايل:h p://www.fazalsheikh.org/index.php

Page 33: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

6465

ــــــــــة ناهضة، هنوضها الرسدي-البرصي ينـزع عهنا ســــــــــمات يبــــــــــدو أنه ضحي

ضحينهتــــــــــا ولو إىل حني. إال أن فازال حياول يف هذا العمل أن يرد االعتبار

ــــــــــات تدوينه، الهشادة إىل الضحية الفلســــــــــطينية متوســــــــــال إىل ذلك تقني

الشــــــــــخصية والبورتريه، ليســــــــــجل ما هو مريئ كأثر لما أصبح يف عداد غري

القابل للتلفظ.44

ــــــــــب جزء العمل من حمــــــــــو Erasure المعروض هنا من ســــــــــت صور يرتك

فوتوغرافية باألبيض واألسود،45 ثالث صور ألشخاص يف مرحلة الكهولة

من حياهتم، وصورتان لصور بورتريه قدمية، وصورة لبيت مهجور عىل تل

ميلء باألعاشب الربية. الصورة األوىل هي بورتريه للمرحومة احلاجة مجيلة

صادق نوباين، وهي تبدو يف العقد الثامن من حياهتا، تلبس عىل رأهسا

ني للناسء من جيلها يف الريف الفلسطيين، خرقة بيضاء وفستانا منوذجي

وهــــــــــذه المالبس توحــــــــــي بأن التصوير كان يف البيــــــــــت وكجزء من أعماله،

أي لــــــــــم جتهز العجوز نفهسا، كما جرت العــــــــــادة يف الاسبق عند التصوير

الفوتوغــــــــــرايف. من حتت غطاء الرأس، تربز مقدمة الشــــــــــعر األبيض، ومن

ثم اجلبــــــــــني الميلء بالتجاعيد؛ العينان تنظــــــــــران مبارشة وهما مغرورقتان

بالدموع وهبما تعبري ألم شــــــــــديد وباحث؛ األنف يف الوسط كأنه ميسك

مل العمل حيث يف أرنبته نوع من الغباش؛ الفم مفتوح فتحة صغرية جم

ــــــــــه يهسل لفظة األلم «آه»، والمنطقة من حول الفم والذقن مكتظة وكأن

كتاف متيل قليال إىل ا. األ ا ممــــــــــزي بالتجاعيــــــــــد العميقة وتضفي مجاال كهولي

األمام، ومنطقة الصدر يف الوسط كقاعدة تقف علهيا الصورة.

ال يوجد خطاب معريف نقدي حول أشكال هيئة ظهور الفلسطيين وما هو المريئ وغري المريئ 44مهنا. وقد يكون اخلطاب التلفزيوين اآلين يف عهد الفضائيات، حبده األدىن، سيفا ذا حدين من حيث إنه يبث هيئة ظهور حمددة للفلسطيين يف يوميات مأاسته، ولكن من جهة أخرى، هذا اخلطاب هو جزء من المشــــــــــكلة وليس خروجا علهيا. لمراجعــــــــــة مثال عىل نقد احلداثة البرصية ــــــــــة فحص احلالة الفلســــــــــطينية عرب المفاهيم اليت يوفرها، راجع -عىل ســــــــــبيل المثال ال وإمكاني

احلرص-:Krauss, R., 1993. The Op cal Unconscious. Cambridge, M. A.: MIT Press. لم يوافق فازال الشــــــــــيخ عىل إدراج الصور الست يف هذا الكتالوج، وذلك ألن العمل ككل لم 45يكتمــــــــــل بعد. ولكن ألهمية البعد الذي متثله هذه الصور يف المعرض ارتأينا أنه من الرضوري

عرضها نصا وحتليال بالرغم من غياهبا البرصي.

ــــــــــا الصورة الثانيــــــــــة فهي بورتريه للحاج جربي فــــــــــؤاد جبارين، ويبدو يف أم

أواخــــــــــر عقده الاسدس، يعتمر حطة وعقاال من النوع البســــــــــيط المنترش

يف الريف الفلســــــــــطيين. العقال مصنوع من عدة خيوط قطنية شــــــــــديدة

الفتل، ولوهنا أسود قاتم، أما احلطة فهي من قماش خفيف لوهنا أبيض

ا من لونني أحدهما ثلجــــــــــي، ويلبــــــــــس قميصا عليه مربعات صغرية جــــــــــد

أزهــــــــــى من اآلخر. يظهر من وجه الرجل بداية جبينه الذي يبدو خاليا من

التجاعيــــــــــد إال خطني أو ثالثة مهنا، ولكــــــــــن من لون البرشة يبدو أنه يعمل

كثريا يف الشــــــــــمس، إما كفالح و/أو كعامل، ثم نرى حاجبيه وقد غزاهما

الشيب -وإن أبقى فهيما هذا األخري بعضا من السواد-، ثم نرى العينني

يــــــــــق يلمع من دمع بنظرهتمــــــــــا المحدقة مبــــــــــارشة يف الماشهد، وفهيما بر

جيهتد صاحبه حببســــــــــه يف مآيق ذاكرة تتســــــــــع لعدة مآس. ثم يأيت األنف يف

المركز ليمســــــــــك الصورة بغباشه اخلفيف، ومن جانبيه وجنتان ضامرتان

يف كل مهنمــــــــــا جتعيد واحد كأنه أخدود يف ســــــــــفح جبــــــــــل أملس، ومن ثم

ا بأسوده كما ببياضه، فمنطقة الذقن الاشرب المرتب وغري األنيق طبقي

المليئــــــــــة بالتجاعيد، والعريضة نوعا ما عرضــــــــــا يضفي رونقا عىل الوجه

األســــــــــمر الطويل. عىل الكتــــــــــف األيرس رفع جزء من احلطــــــــــة، بينما الكتف

األمين مكشــــــــــوف واحلطــــــــــة تدلت عىل الظهر. الكتفان والصدر يشــــــــــكالن

مثلثا متاسوي األضالع وذا حجم يولد انطباعا بقوة اجلســــــــــم ورياضيته.

الوضعية العامة لكل اجلزء المصور من الرجل هي أميل إىل األمام، وكأنه

عىل وشــــــــــك أن يقول شــــــــــيئا ما بني األلم واحلسم واالهتام، إال أنه هنالك

طيف أاسيس من النعومة اإلناسنية المكسورة اليت تراوغ الناظر إلهيا يف

المثلث الصغري الذي يتشكل من قاعدة هي اجلبني ورأس هو الذقن.

ــــــــــا الصــــــــــورة الثالثة، فهي بورتريه للحاجة خدجية حســــــــــن حماجنة، وهي أم

تبدو يف بداية سبعينياهتا، تضع «اخلرقة» عىل رأهسا وتلف نصفها عىل

رقبهتا. تلبس فســــــــــتانا موردا، يبدو أنه فســــــــــتان للعمــــــــــل البييت، وبالرغم

ــــــــــا يبدو مــــــــــن أن الغطاء عىل الرأس قد رتب من أجــــــــــل التصوير، إال أن مم

Page 34: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

6667

الهيئة العامة تشــــــــــري إىل عادية السياق اليومي للتصوير. من حتت الغطاء

يبــــــــــدو الشــــــــــعر وقد اشب، ثم اجلبــــــــــني المعرش من أعــــــــــىل وعىل اجلانبني

بالغطــــــــــاء، وهــــــــــو (اجلبني) أملس ناعم ما عدا خطــــــــــني يف ما بني احلاجبني.

احلاجبان ذاهتما غري واضحني، وبالتحديد مع بروز خطوط الكحل الكثيفة

ــــــــــا يؤدي إىل بروزهما، وذلك بالرغــــــــــم من جتاعيد اجلفون عىل العينني، مم

المتشكلة خطوطا مرتاصة. هنالك بريق يف العينني وبداية تشكل لدمع

يف أســــــــــفلها، وهما تنظران مبارشة من فوق كتــــــــــف الماشهد اليمىن إىل

األفق البعيد، باحثتني عن يشء أو شخص ما ورمبا ذكراهما معا. األنف

يف الوســــــــــط أملس ومتناســــــــــق مع المنطقتني المالصقتــــــــــني له من جانبيه

يف الوجنتني، حيث بعدهما تبــــــــــدأ مناطق التجاعيد. المنطقة المحيطة

بالفــــــــــم المغلق من أعىل وعىل اجلانبني مليئة بالتجاعيد بشــــــــــكل مرتاص،

ــــــــــا منطقة مركز الذقن فتبدو ملاسء ال يشــــــــــوهبا اشئب. حتت الذقن أم

يظهر اجلزء العلوي من أســــــــــفل الفك وهو أجعد متاما، ثم حيجب غطاء

ا حولها. الكتفان مستقيمتان والصدر حيملهما والرأس الرأس الرقبة ملتف

بهسولة، وهي تشكل ثلث ماسحة الصورة.

ية صغرية، هي أقرب للســــــــــكملة، ثالثة شمعدانات عىل عىل طاولة دائر

ية، ذات إطار، لعروســــــــــني، هذه صورة أوســــــــــطها وضعت صــــــــــورة تذكار

صــــــــــورة البورتريه األوىل، وهي لباســــــــــمة شــــــــــفيق قحــــــــــاوش وزوجها حممد

ســــــــــعيد أمحد ســــــــــعادة. جبانب الطاولة، هنالك اسعة ذات خزانة كبرية

ينة بأسلوب النوفو آرت من العقد الثاين من القرن من خشب، وهي مز

العرشيــــــــــن. يبدو أن المصــــــــــور أراد هبذا األثاث أن حيدد الســــــــــياق الزمين

للصورة اليت وضعها، حيــــــــــث إن الصور ال توضع عادة يف هذا الموضع.

العريس يلبس بدلة وحطة وعقاال، أما العروس فتلبس فســــــــــتان عروس

مودرن حمتشما، مع طرحة وقفازات وباقة ورد. عىل زجاج اإلطار ملصقة

عبارة «فوتو نبيل [االســــــــــم غري واضح] النارصة»، هذا مما قد حيدد زمن

التقاط الصورة بشــــــــــكل دقيق. المناخ العــــــــــام للصورة يتحدد من الضوء

الــــــــــذي يأيت من اجلهة اليــــــــــرسى للناظر باجتاه اليمــــــــــىن إىل أعىل، حبيث إن

ا ألســــــــــفل الصورة ومــــــــــن ثم ظال ما هنالــــــــــك ظــــــــــال للاسعة، وتعتيما أولي

للطاولة. وتبقى الصورة والشمعدانات واجلزء العلوي من العمل يف بؤرة

الضوء.

يــــــــــه الثانية، وهي ألفراد عائلة أبو حشــــــــــييش من ــــــــــا صورة صور البورتر أم

قرية أبو شــــــــــوش، فهي عبارة عن ثالث صــــــــــور بورتريه وضعت عىل كنبة

تبدو مألوفة يف يوميات العائلة الفلســــــــــطينية اليــــــــــوم، ويف اخللفية حائط

الغرفــــــــــة. من اجلهة اليــــــــــرسى للناظر صورة تذكارية لعروســــــــــني؛ العريس

يقف يف اخللف، أما العروس فتقف أمامه ولكن بإزاحة نصفية إىل ياسر

مــــــــــة ويضع «حمرمة» الماشهــــــــــد. العريس يلبس بدلــــــــــة وربطة عنق مقل

داخل اجليب العلوي جلاكيت البدلة، يف ترسحية شــــــــــعره أسلوب ثالثيين

(أي عقد الثالثينيات من القرن العرشين)، أما العروس فتلبس فستانا

«مودرن» وتضع طرحهتا قليال إىل الوراء لتكشــــــــــف ترسحية شعر طويل،

وضعت عىل وجهها مكياجا، هنالك عقد ذهب عىل صدرها، وأاسور

يف معصمهيا، تلبس قفازات وحتمل باقة ورد. يف الوســــــــــط هنالك صورة

بورتريه لشــــــــــيخ يبدو يف الســــــــــبعينيات من عمره، له حلية بيضاء مشــــــــــذبة

بعنايــــــــــة، يلبس حطة وعقــــــــــاال بلون واحد قاتم، وعبــــــــــاءة فوق «دماية»،

من مالبســــــــــه وهيئة حضوره، وذلك مقارنة مع صور فلســــــــــطينية أخرى،

يبدو أن الصورة التقطت يف بداية القرن العرشين.46 أما صورة البورتريه

الثالثــــــــــة عىل ميــــــــــني الماشهد، فهــــــــــي لرجل يف هناية العقــــــــــد اخلامس من

عمره، يرتدي المالبس الريفية الفلســــــــــطينية، عقاال أسود وحطة بيضاء

«دماية» وفوقها جاكيت، وجهه حليق وله اشرب خفيف. يبدو الرجل

طافحا بالعنفوان ولكنه ليس مرتاحا للتصوير، وحبســــــــــب الهيئة والتعبري

يف الوجــــــــــه ونوعية الصورة من الممكن التخمــــــــــني أن الصورة التقطت يف

انظر، عىل سبيل المثال: 46Khalidi, W., 2010. Before their Diaspora: A photographic history of the Pales n-

ians, 1876-1948. Washington, D. C.: Ins tute for Pales nian Studies.

Page 35: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

6869

هيــــــــــات الثالث لها أطر، إال أنه ال ســــــــــتينيات القرن العرشين. صور البورتر

يبدو أن اإلطار مرتبط بالرضورة بزمن التقاط الصورة.

أما الصورة الاسدســــــــــة، فهي لتلة ســــــــــفحها ميلء باألعاشب الربية، ويف

طرفهــــــــــا العلوي بيت مهجور، وتبدو يف جانبه شــــــــــجرة، عىل األغلب هي

تينــــــــــة. زاوية التصوير، من األســــــــــفل إىل األعىل باجتاه البيــــــــــت، موضعت

األعــــــــــاشب الربية يف أكرث من ثالثة أرباع الصورة، بينما البيت والشــــــــــجرة

يف الربع العلــــــــــوي مهنا. األعاشب الربية لم تطأها قدم برشية بتاتا؛ فهي

ــــــــــة، للوهلة األوىل يبدو للناظــــــــــر أن األعاشب جافة تبــــــــــدو حبالهتا الطبيعي

ومصفرة، أي إن الصورة التقطت يف الصيف، إال أن التمعن فهيا يشــــــــــيع

الشــــــــــك يف مدى صواب هذا احلكم، وال ســــــــــيما أن األعاشب يف مقدمة

الصورة توحي بنضارة ما. يشء ما بطبيعة وشــــــــــكل األعاشب يوحي بأهنا

من الريف شبه اجلبيل يف أواسط فلسطني. البيت مبين من حجر، ويظهر

منــــــــــه زاويــــــــــة التقاء اثنني من حيطانــــــــــه فقط، يف احلائــــــــــط يف اجلهة اليرسى

ــــــــــا احلائط الثاين فهو خــــــــــال من أي فتحة. للماشهد هنالك شــــــــــباك، أم

م، حيــــــــــث نبتت أعاشب ســــــــــقف البيــــــــــت غائب، وأعىل احليطــــــــــان مهد

وتبــــــــــدو بعض الطحالب عىل األحجــــــــــار العلوية من احلائطني. يف المعتاد،

هــــــــــذه الرتكيبة تدل عىل طول فــــــــــرتة هجران البيــــــــــت، أي إهنا عىل األقل

حتســــــــــب بعدة عقود. فلسطني مليئة هبذه العمائر المهجورة لغاية يومنا

هــــــــــذا، والعابر يف شــــــــــوارعها ال يراهــــــــــا، وذلك أنه جرى تفكيك النســــــــــيج

المعماري وشــــــــــبكة الشوارع وإحالل نظام اســــــــــتعماري يف مكاهنا. ولكن

ــــــــــة، يف عمق احلقول والوديان والهضاب، أي المهشد غري المريئ يف اخللفي

ل ية الهجــــــــــران اليت تقوم هذه الصورة بتمث يف اليومــــــــــي اآلين، تقبع معمار

جانب مهنا.47

ا مبا ناشهده يف أغلب الكتب اليت تؤرخ لقرى فلســــــــــطني المدمرة، هذه الصورة شــــــــــبهية جد 47انظر -عىل سبيل المثال-:

Khalidi, W., 1992. All that Remains: Pales nian villages occupied and depopulated by Israel in 1948. Washington, D. C.: Ins tute for Pales nian Studies.

ية يــــــــــه التذكار لعــــــــــل البيوت، المســــــــــكونة كما المهجــــــــــورة، وصور البورتر

للوالدين يوم زواجهما، وللجــــــــــد يف جمد كهولته، هي من أهم العالمات

الفارقة لدى األجيال الفلسطينية، اليت كربت بعد النكبة عىل ما سبقها

من أنــــــــــاس وحياة وتارخي. واســــــــــتحضار هذه العالمات ومــــــــــن ثم توثيقها

ا عما الفوتوغرايف يف سياقها اآلين، يف حماولة الستنطاقها، لكي تعرب برصي

ال ميكن له أن يقال شــــــــــفاهة. وهنا يتبادر الســــــــــؤال حــــــــــول البيئة المادية

االجتماعية لذاكرة وهتجري وهجرة الفلســــــــــطينيني وإمكانية اســــــــــتنطاقهما

بــــــــــأدوات تبدو أهنا طــــــــــورت خصيصا لـ «الضحية» أينمــــــــــا وجدت. فهل

ــــــــــة هي حدث بذاته ال يتكرر ا؟ أم إن كل ضحي هنالــــــــــك ضحية كونية حق

وال يتاشبــــــــــه مع أحــــــــــداث و/أو بىن أخرى؟ فمن جانب، يبدو النســــــــــيج

الفوتوغرايف للبيــــــــــت المهجور منوذجا يصلح للكثري من حاالت الهتجري يف

العالــــــــــم. ومن جانب آخــــــــــر، هو حيتوي المحلـي بقــــــــــدر ما للماشهد من

قدرة عىل اســــــــــتخالصه. أما غري المــــــــــريئ يف هيئة الصورة للبيت المهجور

فهي طريق العودة إليه، حيث إنك كماشهد تبحث بني األعاشب عن

ذلك الماسر الصاعد باجتاه البيت أعىل التلة، حيث إن المصور رســــــــــم

ا تصل من خالله نظرتك إىل البيت لتطلب من ثم ا افرتاضي بزاويتــــــــــه خط

رجليك بالسعي يف طريق نظرك. وهذا ينطبق عىل صور صور البورتريه،

فاالنشباك التوثيقي مع هذه الصور يؤدي إىل إثارة جمموعة من األسئلة

حول مصائر هذه الشخصيات اليت يبدو أن حياهتا كانت مليئة بالدراما

العربية أيام الهنضة احلداثية يف فلسطني بعد احلرب العالمية األوىل. فأين

آثار هؤالء وما عمروا من جمتمع ومعمار وثقافة؟ أين أحفادهم؟ هل تطور

روا قرسا مرشوعهم المودرن؟ أم إهنم اقتطعوا من أمكنهتم وأزمنهتم وهج

ــــــــــة؟ تود لو أنك تســــــــــتطيع الميش معهم، يف ماسلــــــــــك اللجوء المأاسوي

فهــــــــــذه وجوه مضيافة ألناس أحبوا العيش، فهذا عريس وتلك عروس،

هذا جد وقور، وآخر رب عائلة يسعى للرزق. تود أن تسري بعجلة الزمن

إىل تلك اللحظة ما قبل المأاسة، لتسعى يف طريق التغلب علهيا. هنا،

Page 36: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

7071

يف هذه الصور، تربز قضية الســــــــــعي اللحوح والمــــــــــراوح يف طريق العودة

ــــــــــة اللتقاط غــــــــــري المريئ يف ما تبقى من العالمــــــــــات الفارقة من البيئة كآلي

المادية االجتماعية للذاكرة الفلســــــــــطينية يف آنيهتا. ويبدو أن فازال يقول

إن الكوين يف هذا السعي قائم بالرغم من اختالف حماليت يف األحداث.

هيات الثالثة بنبأ آخر حول الذاكرة والهتجري والهجرة وتفاصيل تأيت البورتر

عملهما يف الســــــــــياق الفلســــــــــطيين. يف البورتريه جتســــــــــيد للهيئة التعبريية

يشــــــــــد الناظر إىل جسدية المادة الفوتوغرافية، إىل طوبوغرافية التشكيل

الوجهــــــــــي: اخلط االحنناءة التجويف الربوز الضمور جتاعيد، جبني حاجب

رمــــــــــش عني أنــــــــــف وجنة فم ذقن رقبــــــــــة كتف صدر. تلتقي هــــــــــذه برتكيبة

معينة انتشــــــــــلها المصور يف حلظة من رشيط الزمن، التقطها لريفعها عن

ــــــــــق العادي وبفصله هــــــــــذا لها مييهتا ولكن حييهيــــــــــا أيضا. فازال من التدف

خــــــــــالل مقابالته اليت أجراها مع هؤالء األشــــــــــخاص طلب مهنم هشادهتم

الشخصية عن عملية الهتجري اليت مروا فهيا، وخالل رسدهم لها ويف حلظة

ية لوجه جســــــــــد الذاكرة يف انفعالهم المكثفة قام بالتقاط اللحظة الصور

ــــــــــظ. إن الكثافة يف الوجوه الثالثة تبدأ هجرتــــــــــه من مهجعه إىل اآلن المتلف

من التجاعيد وما يقوله الزمن الذي حفر فهيا، أي إن جسد الزمن جيلس

ل الوجه الذي يصبح مرسحا لدراما الزمن. يف الوجه، وجبلوسه هذا يشك

لكن أهم ما يف جسد الزمن هو عبوره، وهذا العبور يثقل المرسح /الوجه

بتجاعيد جديدة، ومن هنا مقابلته ومتاثله مع ثقل المأاسة الفلسطينية

الــــــــــيت تتكرر كمــــــــــا الزمن، وتثقل يف كل تكرار من جديد كما يثقل اجلســــــــــد

الزمن بعبوره المســــــــــتمر. يف تعابري الوجوه الثالثة تقطري لكيمياء المأاسة

ا حد سكني يستأصل األحاشء الفلسطينية، كثافة جسدية شديدة جد

يوازيه شــــــــــعور وجودي عميق بالظلم الباين لالنعتاق. نرى األلم الشديد

عــــــــــىل الوجه المرتفع الناهــــــــــض باحثا من خلف خراب األيام عن نشــــــــــوة

القادم من احلياة، والذي يصارع ثقل جسد الزمن اجلالس يف مادة جسد

ا يصبح تراكم ثقل مادة جسد المأاسة الوجه جتعيدا، والذي فلســــــــــطيني

/الزمن مع تكرار حدث المأاسة /الزمن جسدا.

ا وإعادة ضخه يف ا، بتوثيقه برصي إن اسرتداد الممحو الفلســــــــــطيين تارخيي

جمرى الزمن اآلين عرب استخراج البعد اإلناسين الكوين منه، يطرح السؤال

له ، بل حتاول نفيه لتشــــــــــك حول خاصية هذا الممحو اليت ال حتمل الكوين

من جديد. فالقضية ليست فقط مبدى كونية اإلناسن الفلسطيين، إن

كانت أصال كذلك، وإمنا تقبع القضية يف احلمولة اليت قد تعيد تشكيل

الكوين ذاته يف حال انفتاحه عىل اخلاص الفلســــــــــطيين. من هنا، إن أعمال

فازال شيخ الفوتوغرافية تعيد طرح مجالية انتاشل غري المريئ يف الضحية

الفلسطينية، إال أهنا تتضمن سؤاال حول الكوين دون أن تتلفظه. ما هي

أبعاد موضعة الفلســــــــــطيين عىل خشبة مرسح الرأسمالية المتأخرة؟ هل

ستعري النظام حبمولته غري النظامية؟ أم إنه سيصبح مادة جيدة إلعادة

تشــــــــــكيل الضحية النموذج من جديد كماركة مسجلة؟ هذا ما ال جييب

عنه مرشوع فازال شــــــــــيخ، ولكنه يقلق الفلســــــــــطيين الذي جيب أن حيسم

موقفه إن لم يفعل ذلك بعد.

.11

قــــــــــد يرتك الفن كوة يف جدار النظام االجتماعــــــــــي التارخيي القائم، وهبذا

فهو يدخل رفيقيــــــــــه، المبدع والماشهد، إىل ما هو خلف جدار القائم،

وكأنه ســــــــــفر يف ما وراء حجاب، حيث بالرتحال فهيــــــــــا تصبح الكوة بوتقة

صهر وتشــــــــــكيل للنظــــــــــام وصوره. واليوم، قد تبــــــــــدو أدوات صناعة الفن

مــــــــــن الكونية مبكان حبيث إننا ال نــــــــــرى أدوات حملـية كما عهدنا يف فرتات

أخرى من تارخي الفن، وذلك عقب المالحم الرئيســــــــــية للطور الرأســــــــــمايل

المتأخر الذي نعيشــــــــــه اآلن.48 فتصبح هبــــــــــذا العالمة الفارقة لكل فن ما

ــــــــــة يف ماديهتا، أي إعادة فتح حلظة انشــــــــــباك المــــــــــادة االجتماعية التارخيي

راجع التايل للمقارنة بني فرتات تارخيية خمتلفة: 48Hauser, A., 1999. The Social History of Art. London: Routledge, (vol. 1-4).

Page 37: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

7273

Ba- الطبيعي /الفزييقي بالتشكيل االجتماعي، تلك المادية األاسسية

sic Materialism اليت ال تطفو عادة بسبب من احلاجز الشكالين لهيئة

احلضور الســــــــــلعي يف الرأســــــــــمالية.49 والنقد هو إزالة الســــــــــتار عن السفر

ــــــــــة الماسكنة يف العمــــــــــل،50 كوته كما يف مــــــــــا وراء احلجــــــــــاب، وفتح إمكاني

بوتقته، والمقولة اليت محلنا يف هذا المقال سفرا هو أن هذا الشكل من

ا. فيصبح النقد ال يتنافذ إال عرب المادية األاسســــــــــية بتداولها شكال مجالي

الســــــــــؤال: ما هي المادية األاسسية للذاكرة والهجرة يف فلسطني؟ وهل

من الممكن أن تكون مادية أاسسية ما أعم مهنا تشمل كل ما هو حدث

تشكييل فلسطيين؟

متــــــــــوج الذاكــــــــــرة، كل ذاكرة، بأحــــــــــداث مهاجرة، كما جتلــــــــــس الهجرة، كل

هجرة، عىل المقعد األمامــــــــــي يف ركب الذكريات. هتاجر الذاكرة يف وإىل

أحداهثــــــــــا لتبنهيا من جديد عىل اشكلهتا األوىل، ذكرى. أما الهجرة، فهي

يف األاسس ســــــــــعي أويل إلعادة تنصيب احلدث عىل عرشه، مبا هو ملك

احليــــــــــاة.51 ولعله هبذا نرى أن الذاكــــــــــرة والهجرة هي أاسليب يف التعامل

مع وصياغة جوانــــــــــب خمتلفة من احلياة االجتماعية المعاشــــــــــة. فالذاكرة

ل الفعل اآلين عرب ا حيتوي ويصهر ويشــــــــــك تبــــــــــدو للوهلة األوىل وعاء زمني

ــــــــــكاء عىل ما يعــــــــــرف بأنه حــــــــــدث وخبا يف مــــــــــاض أول. بينما يبدو أن االت

الهجــــــــــرة مجع متحرك يبحث عن حدث، ليشــــــــــكله مــــــــــن جديد، بعد أن

خبا حدثه يف المكان األول وأصبح ذكرى. يف هذا الفهم، الذاكرة تلعب

يف مــــــــــرسح الزمــــــــــن، والهجرة تتحرك عىل رشيط مــــــــــكاين. فإن كانت هذه

هــــــــــذه المداخلة تعتمد عىل ما جــــــــــرى تطويره عىل يد جورج بتاي، ومن ثم طرق اســــــــــتخدامه 49المتعددة يف الفن، وال سيما مفهوم Formless، أو ال-شكل. انظر:

Bataille, G., 1985. Visions of Excess: Selected wri ngs, 1927-1939. Minneapolis: University of Minnesota Press, p. 31.

Bois, Y. A., and Krauss, R., 2000. Formless: A user’s guide. Cambridge, M. A.: Zone Books.

الماسكنة مصطلح اشــــــــــتق مؤخرا لوصف عالقة عيش مشرتك، دون أن يكون ذلك واقعا أو 50نابعا من النظام األبوي السويق بلباس قانوين.

حول مفهوم احلدث وأهمـيته كما يستخدم هنا، راجع: 51Badiou, A., 2007. Being and Event. N. Y.: Con nuum.

مــــــــــا تضبط فضاء الغزل بني هجرة وذاكرة، يأيت ســــــــــؤال التعبري المحمول

هبذه الصفات األاسســــــــــية لكل مهنما عىل حدة وجمتمعني. بعبارة أخرى،

الذاكرة كالم، والهجرة صورة، لينفجر حد ما يف كالم الصورة عند صورة

الكالم. من هذا فالمادية األاسســــــــــية للذاكرة هي حدث حلدث انشبك

يف زمــــــــــن آخر، بينما الهجرة هي حــــــــــدث باحث عن حدث يف مكان آخر،

ويف التعبري عهنما حدث ثالث يأخذهما بالرضورة، وال يتخذهما منوذجا.

لة، وهذا حدهثا، وحركة الكالم التعبري، من حيث ماديته، هو حركة مشك

يته، أي كيفية احلركة. ففي التعبري يصبح كما حركة الصورة تكمن يف شعر

ب، إال أن ما جرى نفيــــــــــه، المادة يف حضورها الســــــــــؤال كيــــــــــف تقول/ترك

المادي ال الشكالين /السيميايئ، هو ما يضبط شكل القول /الرتكيب؛

أو عىل األقل هذا ما يطفو من المادية األاسسية يف التجربة الفلسطينية

للذاكرة والهتجري والهجرة.

إن المادية األاسسية للذاكرة والهتجري والهجرة يف فلسطني هي سلسلة

ــــــــــس وهو نكبة عام 1948، وذلك أحــــــــــداث تتموضع جتاه احلدث المؤس

لتحملــــــــــه خلقا. فسلســــــــــلة األحــــــــــداث هذه متحركة عرب أنــــــــــواع من الزمن

وهيئات من األمكنــــــــــة المختلفة والمتباينة، إال أهنــــــــــا تعمل وفق مبدأين

ناظمــــــــــني حلركهتا العامة، وبكوهنمــــــــــا كذلك يضبطان التعبــــــــــري عهنا أيضا.

المبدأ األول هو الســــــــــعي اللحوح والمراوح يف طريق العودة، فبنية حلظة

المأاسة يف عام 48 -من حيث هي حدث خروج قرسي- حتتم نقيضها

حــــــــــدث العودة، فالبنية لــــــــــن تكتمل إال بالعودة؛ ومن هنــــــــــا التوتر العايل

ق العودة والذي يدفــــــــــع بتكرار ال يكل إىل هيئات ــــــــــد من عدم حتق المتول

ظهور شىت، من ضمهنا المريئ، عىل مرسح التداول االجتماعي التارخيي.

ن يف حدث مــــــــــأاسة 48 الناجت عن طبيعة ــــــــــا المبدأ الثاين، فهو متضم أم

االستعمار ذاته، حيث ال يقبل هذا النظام وجود، أو حىت إمكانية وجود،

جسد فردي و/أو مجعي غري ذاته، فيقوم بتدمري اجلسد الفلسطيين عن

بكرة أبيه. ومن طبيعة األجاسد، أي مبدأ ماديهتا األول، توليد ذاهتا كلما

Page 38: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

7475

استطاعت إىل ذلك سبيال، وأحيانا بدونه كذلك، هذا مما يدخل النظام

يف مأزق فيضطر إىل أن يعيد ســــــــــيناريو 48 مرة تلو األخرى. وهكذا فإن

مرور الزمن يؤدي إىل تراكم طبقات جسدية، بالمعنيني احلريف والمجازي

للكلمــــــــــة، عىل جســــــــــد المــــــــــأاسة األول فيثقله يف كل كرة مــــــــــن جديد. إن

ازدياد ثقل جسد المأاسة يضغط بشدة باجتاه تشكيلها يف هيئات ظهور

متعــــــــــددة، من ضمهنا المريئ، عىل مــــــــــرسح التداول االجتماعي التارخيي.

نة يف مــــــــــن هنا نالحظ أن المبدأين يقومان بتكثيف حركة التعبري المتضم

بنية سلســــــــــلة أحداث الذاكرة والهتجري والهجرة عىل حمور أفقي، السعي

يــــــــــق، وعىل آخر عمودي هو ازديــــــــــاد الثقل. ومن الممكن تصنيف يف الطر

المداخالت اجلمالية لألعمال المعروضة بناء عىل هذه المنظومة األولية

مــــــــــن التعبري عما هــــــــــو الذاكرة والهتجــــــــــري والهجرة الفلســــــــــطينية، مبا هي

سلسلة أحداث تتموضع جتاه حدث نكبة عام 1948.

تقوم كل جمموعة من األعمال الفنية الســــــــــبعة ببناء تشــــــــــكيل مجايل حمدد

وممزي. وال ميكن اخزتال هذه التشــــــــــكيالت لتيمة و/أو لهوية فلسطينية أو

أخرى واحدة متجانســــــــــة، وإمنا تشــــــــــرتك كلها بالمادة األاسسية للذاكرة

والهتجري والهجرة الفلســــــــــطينية اليت هي سلســــــــــلة أحداث ذات مبدأين.

إن هذا االشــــــــــرتاك يتضمن تناول طبقات شــــــــــىت من هذه السلسلة، مما

ع يبدو أنه ضبط من ينتج عنه تعدد وتنوع يف هيئات الظهور المرئية، تنو

خالل تقاطعات شــــــــــخصية وإبداعية واجتماعية وسياق تارخيي. فاختيار

أاسمة سعيد للحظة احلدث بثقله اجلسدي المزتايد، وسعي إسماعيل

حبــــــــــري يف مدينته العربية اإلســــــــــالمية عرب مادية تقنية تســــــــــجيلها األوىل،

احلــــــــــرب، وإعادة تركيب فلمي حلدث الهجــــــــــرة الاسعية عىل جرس الكرامة

/العــــــــــودة عىل يد مهند يعقويب، هــــــــــي أمثلة لهذه التقاطعات اليت تولد

االختــــــــــالف وترثي آفاق العمل اجلمايل. وعندما نتفحص عن قرب بنيوي

وتارخيي تقنيات تدوين هيئــــــــــة الظهور المرئية والتحوالت اليت مرت فهيا

هذه التقنيات، نرى أن علينا أن نعود للمشــــــــــرتك العام، وذلك لرنصد

وقع انشباك سلسلة أحداث الذاكرة والهتجري والهجرة الفلسطينية عىل

التقنيات كما عىل المادة األاسسية اليت تنافذت معها وفهيا.

كل عمــــــــــل فين يف المعرض أضاف قيمة ما عىل اللغة اليت يســــــــــتخدمها،

وبإضافته هذه فتح ســــــــــؤالني أاسسيني. الســــــــــؤال األول هو حول حدود

تقنية التدوين يف التعبري عن هذه المادة األاسســــــــــية العينية. أما السؤال

الثاين فكان حول كونية سلســــــــــلة األحداث من حيث قابليهتا ألن ترتجم

عرب لغات تقنيات التدويــــــــــن المختلفة. تبني لنا أن هيئة الظهور المرئية،

كما هو األمر يف السعي األدايئ يف وادي النسناس يف عمل أنيسة أشقر،

تتشــــــــــكل عرب عالقة جدلية مع هيئة الظهور الال مرئية، يف السعي األدايئ

ا لن هــــــــــي ثقل حطام مدينة حيفا اليت ســــــــــعت فهيا أنيســــــــــة، حيث بنيوي

تســــــــــتطيع إال اإلاشرة إىل هذه العالقة دون إمكانية دجم قطبهيا. فعندما

يعمــــــــــل مبــــــــــدأ الظهور (الال) المــــــــــريئ األول األفقي، الســــــــــعي يف الطريق،

كالمحور األاسيس يف التشــــــــــكيل، نرى أنه جتري اإلاشرة العالئقية لمبدأ

الظهــــــــــور (الال) المريئ الثــــــــــاين العمودي، ازدياد ثقل جســــــــــد المأاسة /

احلــــــــــدث، والعكس صحيــــــــــح، أي عند عمل المبــــــــــدأ الثاين جتري اإلاشرة

العالئقيــــــــــة للمبدأ األول. ونرى ذلك بوضــــــــــوح يف أعمال زهدي قادري،

ــــــــــة التقنية /احلــــــــــدث أدى إىل تنحي مبدأ حيث إن إنشــــــــــغاله بثقل مادي

مل أعماله، مثل الســــــــــعي يف الطريق إىل نوع من النطاق الال مــــــــــريئ يف جم

كل األشــــــــــكال العينية الممكن تركيهبا عرب اللغة الهندسية المجردة. لذا،

من الممكن القول إن كل تقنية تدوين برصية يف هذه األعمال تســــــــــتطيع

العمل من خالل مبدأ أاسيس واحد مشــــــــــتق من بنية سلســــــــــلة أحداث

الذاكــــــــــرة والهتجري والهجرة الفلســــــــــطينية، مــــــــــع اإلاشرة إىل المبدأ الثاين

ــــــــــا. هذا يشــــــــــري إىل حمدودية كل تقنية تدوين مبــــــــــا هي كذلك، أي عالئقي

ا، ومن هنا فإن يف بنيــــــــــة التقنية حدود لما ميكن أن جيري تســــــــــجيله برصي

أحد أشكال التحدي يف اإلبداع هو ماسءلة التقنية عن حدودها. ولعل

أعمــــــــــال زهدي قــــــــــادري ومهند يعقويب هي األبــــــــــرز يف هذا المعرض اليت

Page 39: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

7677

ا أما خبصوص الســــــــــؤال الثــــــــــاين حول قابلية تواجــــــــــه هذا التحدي إبداعي

المادة األاسســــــــــية يف الذاكرة والهتجري والهجرة الفلســــــــــطينية للرتمجة عرب

تقنيات خمتلفــــــــــة، فنحن نرى أننا أمام مأسلة أكــــــــــرث تركيبا وعمقا وحتديا

من ســــــــــؤال حدود التقنية. فأعمال إســــــــــماعيل حبري وفازال شــــــــــيخ، كل

بطريقته الممزية، أضاءت المادة األاسسية، ومن ثم ترمجهتا عرب تفسريها

التقين، إىل أبعاد عربية إســــــــــالمية وكونية. إال أننا نالحظ أن األفق العريب

اإلســــــــــالمي يف أعمال إسماعيل حبري رد إىل حماولة الكشف عن الال مريئ

يف جســــــــــد المدينة عــــــــــرب التوغل يف جســــــــــد تقنية التدويــــــــــن، بينما األفق

الكوين يف أعمال فازال شيخ حتم قبول التقنية والتوغل يف جسد احلدث

الوجهــــــــــي عينه. هذا مما يرد يف حالــــــــــة عمل حبري إىل تارخيانية التقنية، أي

حل تناقضات الريشــــــــــة /القلم يف بنية الكامريا، وهبذا إحالة إىل أشــــــــــكال

المــــــــــدن المتتالية عرب العصور، ويف حالة عمل شــــــــــيخ قبــــــــــول بنية النظام

التكنولوجي القائم ليتمكن من البحث يف مادة احلدث، أي عدم سؤال

التقنية عن ذاهتا عرب انشــــــــــباكها بالمادة الفلسطينية ليتمكن من تسجيل

هــــــــــذه األخرية يف هيئة ظهــــــــــور قابلة للتداول الكــــــــــوين: دموع ووجه حزين

لعجــــــــــوز وبيــــــــــت مهجر. من هنا فــــــــــإن أجزاء من المادة الفلســــــــــطينية غري

ــــــــــا- نقيض لهذه احلركة. هنالك يف حدث قابلــــــــــة للرتمجة، بل هي -عالئقي

المــــــــــأاسة طبقة ال-تعبريية وإمنا هي وجود /مادة، وكل حماولة يف تدويهنا

هي هدم لها. هل هذا ميزي احلالة الفلسطينية فقط، أم إنه إشكال كوين

عام؟ يبدو أنه إشــــــــــكال كوين عام، وهبذا فهو قابل للرتمجة والتعبري، ورمبا

هنا تكمن ماسهمة الفلســــــــــطينيني/ات: التعبري عن ذلك الذي ال ميكن

ر. له أن يقال /يصو

اأعمال / עבודות

Page 40: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

7879

سعيدأسامةOsama Said

Page 41: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

8081

مدينة حتت احلصار، 2007، زيت عىل قماش، 170×200.City Under Seige, 2007, oil on canvas, 170x200.

ضحية 1، 2011، زيت ورماد عىل قماش، 160×180.Vic m 1, 2011, oil and ash on canvas, 160x180.

Page 42: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

8283

ضحية 2، 2011، زيت ورماد عىل قماش، 140×160.Vic m 2, 2011, oil and ash on canvas, 140x160.

ضحية 3، 2011، زيت ورماد عىل قماش، 140×160.Vic m 3, 2011, oil and ash on canvas, 140x160.

Page 43: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

8485

زهديقادري

من جمموعة جروح، 2008، أكريليك وسكني عىل قماش، 120×100. Wounds, 2008, acrylic and knife on canvas, 120×100.

Zuhdi Qadry

Page 44: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

8687

من جمموعة جروح ليايل غزة (3 قطع)، 2009، جبس وأكريليك ومفك عىل قماش، 70×70. Wounds Of the Nights of Gaza (3 pieces), 2009, plaster and acrylic on canvas, 70×70.

Page 45: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

8889

حممود درويش، 2008، أكريليك وسكني عىل قماش، 75×60. Mahmoud Darwish, 2008, acrylic and knife on canvas, 75×60.

من جمموعة فريتيكال، 2008،زيت وخشب عىل قماش، 150×90.

Ver cal, 2008,oil and wood on canvas, 150×90.

Page 46: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

9091

محمدفضل

عسل 3، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل قماش، 140×145. Honey 3, 2011, Acrylic and pen on canvas, 140x145.

Muhamad Fadel

Page 47: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

9293

عسل 1، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل قماش، 140×145. Honey 1, 2011, Acrylic and pen on canvas, 140×145.

عسل 2، 2011، أكريليك وقلم حرب عىل قماش، 140×145.Honey 2, 2011, Acrylic and pen on canvas, 140×145.

Page 48: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

9495

أنيسةأشقر

احفظ التارخي: بعد الظهر، 2011، الفيديو المركزي، ‘44: ”20، الفيديو عىل اجلانبني، 11 دقيقة. Save the date: A ernoon, 2011, central video, 20”: 44’, side videos, 11 minutes each.

Anisa Ashkar

Page 49: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

9697

Page 50: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

9899

Page 51: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

100101

يعقوبيمهنداجلرس، 2012، فيديو، ‘32:“23.

The Bridge, 2012, video, 23”:32’.

Mohanad Yaqubi

Page 52: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

102103

Page 53: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

104105

Page 54: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

106107

بحريإسماعيل

أورينتيشن، 2010، فيديو، ‘28: ”40. Orienta on, 2010, video, 40”:28’.

Ismaïl Bahri

Page 55: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

108109

Page 56: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

110111

Page 57: ذاكرة وهجرة: النكبة في الفن الفلسطيني المعاصر. 2012

112

Works